المنطقي وغير المنطقي في عقد المجلس الوطني الفلسطيني

المنطقي وغير المنطقي في عقد المجلس الوطني الفلسطيني

30 ابريل 2018
+ الخط -
في ظل تدافع التطورات، وتزاحم الأجندات والأولويات، وسخونة الوقائع الجارية في المنطقة، يبدو انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، المقرّر افتتاحه اليوم الإثنين (30/ 4/ 2018) في رام الله، حدثاً تفصيلياً لا يلفت الانتباه، وقد يكون خارج دائرة الهموم والاهتمام بالنسبة للرأي العام العربي ومنابر الإعلام، على الرغم من كل ما يستحوذ عليه هذا الحدث من استقطاب داخلي، ويستأثر به من تغطياتٍ كثيفةٍ على الصعيد الفلسطيني، ويثيره من خواطر ومواقف وآراء متباينة، ويُشعله من سجالاتٍ سياسيةٍ حامية الوطيس، راحت تحتدم بقوة، وتتسع أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وذلك غداة تحديد اليوم الأخير من إبريل/ نيسان موعداً نهائياً لعقد دورة عادية، هي الأولى من نوعها منذ 22 عاماً.
ومع أن الخلافات كانت سمةً مصاحبةً لكل اجتماع فلسطيني من هذا المستوى السياسي الرفيع، وكان الأخذ والرد بين النخب والمكونات التنظيمية الفلسطينية يشتد توتراً ويزداد صخباً، عشية انعقاد أي دورة للمرجعيتين التشريعيتين (المجلسين الوطني والمركزي) لأسباب يطول شرحها، إلا أن الخلافات التقليدية تبدو هذه المرة أعمق وأشد انفعالاً من ذي قبل، ليس جرّاء استشراء حالة الانقسام اللعين فقط، وانسداد الدروب السياسية، ومحدودية الخيارات المتاحة فحسب، وإنما أيضاً بفعل تمركز الصلاحيات، واحتكار صناعة القرار، وإطالة أمد الانقسام، الأمر الذي أفضى إلى سابقة غير مسبوقة، ونعني بها الخروج عن القواعد النافذة، والتقاليد المستقرة في الحياة السياسية الفلسطينية، وبالتالي خرق النظام المعمول به لدى المجلس الوطني نفسه.

في باب الأمور المنطقية الملحّة التي تملي ضرورة عقد المجلس الوطني، وهي ضرورة وطنية ملحة، يجب الاستجابة لها من دون مزيد من التأجيل، تتقدّم مسألة إنقاذ المؤسسة التشريعية الفلسطينية من عوامل التآكل البطيء، بما في ذلك تجديد بنية الهيئات والأطر والهياكل والتنظيمات التابعة لمنظمة التحرير، وفي مقدمتها اللجنة التنفيذية التي شاخت كثيراً، وصارت مهددة بفقدان النصاب، ناهيك عن استعادة فاعلية المنظمة ذاتها، بعد أن بات الوطن المعنوي الفلسطيني هذا على شفير الانهيار، وآيلاً للاندثار التدريجي على مرأى ومسمع من أصحابه، وحدّث ولا حرج عن ضرورة مواجهة سلسلةٍ لا حصر لها من الأخطار المصيرية الماثلة حتى لأصحاب العيون الكليلة، وعن رفع سوية الأداء السياسي والتنظيمي على حد سواء، ومجابهة التحديات المحدقة بالوضع من كل الاتجاهات، فضلاً عن تحصين المشروع الوطني الاستقلالي الذي يواجه قدراً كبيراً من الاستعصاء.
يمكن لنا إدراج مزيد من الأسباب المنطقية، الموجبة عقد اجتماع مجلس وطني تأخر انعقاده زمناً أطول مما ينبغي، والمرافعة ببلاغة حول أهمية عقد هذه الدورة، في هذه اللحظة السياسية الفلسطينية المفتوحة على أشد الاحتمالات السيئة سوءاً، إذا ما انتزع فصيل فلسطيني ما حق النقض (الفيتو) ورهن عقد المجلس لاشتراطاته الفئوية الضيقة، وتحول شرط الإجماع على البرنامج السياسي مثلاً، وهو إجماع قد لا يتحقق في المدى المنظور، إلى معولٍ لهدم البيت على رؤوس الجميع، ووقع الوضع المتأزم أصلاً في وهدة المحاصصة الفصائلية، ومن ثمّة ترك الحبل على الغارب أمام مزيد من الأزمات الداخلية، وعوامل الانقسام المقدر لها أن تستفحل مع مرور الوقت.
بالانتقال إلى المظاهر السلبية الباعثة على التوجس والارتياب، ومقاربة الأسباب غير المنطقية، بدون لغة اتهامية، وهي مظاهر مرافقة لدعوة المجلس في دورة انعقاده الحالية، تتجلى لكل ذي عين بصيرةٍ جملةٌ طويلةٌ من التجاوزات على القانون الداخلي للمجلس، وعلى النظام العام، وتتبدّى أمام أعين المهتمين بالشأن الفلسطيني المثقل بالمصاعب والمشكلات، حقيقة التعسف غير المفهوم في استخدام السلطة، والإفراط الشديد في الانتقائية، ومن ثمّة ممارسة حق مشكوك في مشروعيته، أدى في ما أدى إليه إلى تهميش بعض الشركاء، وإقصاء غير مقبول لكثيرين من أعضاء أصلاء في المجلس نفسه، بعضهم من المؤسسين للنظام السياسي، وبعضهم الآخر من المناضلين العتاة، ممن صرفوا جل أعمارهم في الكفاح من أجل فلسطين. فقد بدا أن الاعتبار الأساس الكامن وراء هذا التعسّف في اختيار المدعوين للمشاركة، وهذه الانتقائية، حتى لا نقول الغربلة للأسماء، هو الخلاف السياسي حيناً، والموقف الشخصي المزاجي حيناً آخر، على الرغم من أن هؤلاء المستبعدين ليسوا أصحاب مواقف عدمية أساساً، ولا هم من ذوي الارتباطات الخارجية، إخوة ورفاق درب طويل، لم يتوافقوا حتى مع نظراء لهم عارضوا عقد المجلس في رام الله "تحت حراب الاحتلال!"، مع أن الاختلاف في الرأي دليل عافية سياسية، وقرينة على صحة أي نظام سياسي بعينه، بل ومظهر سائد في أرقى الديمقراطيات الغربية، فكيف يجري إقحام الخلاف في وجهات النظر هكذا في مسألة نظامية، والدفع به معيارا للعضوية المكتسبة من عدمها، مع أن أحد أهم أهداف هذه الدورة هو تعزير الشرعية، واسترداد ألق الصورة الفلسطينية؟
كان مأمولاً من دورة انعقاد المجلس الوطني، في هذ المرحلة العصيبة، أن تشكل نقطة تحول إيجابي في مسار القضية الفلسطينية، وأن تؤدي إلى خطوةٍ إلى الأمام على طريق استعادة الوحدة الوطنية وترتيب البيت الداخلي، وأن تفتح باباً أوسع من ذي قبل للقيام بمراجعاتٍ نقدية، تصوّب المسار، وتقدّم الأجوبة المطلوبة على أسئلةٍ مطروحةٍ لا تحتمل التسويف أكثر، لعل في طليعتها كيفية منع حالة الانقسام من التحول إلى وضعية انفصال تأخذ قطاع غزة إلى مصائر كارثية، والعمل على توسيع نطاق الخيارات والبدائل والممكنات الكفيلة بتصعيد المقاومة الشعبية، وقد صارت أخيرا محل إجماع نادر، فضلاً عن مواجهة "صفقة القرن"، ورفع وتائر الاشتباك الدبلوماسي، وغير ذلك من استحقاقاتٍ تحصى ولا تعد.
أما وقد أصبح انعقاد المجلس الوطني حقيقة منتهية، وغدت كل هذه السجالات وراء الظهر، حتى وإن استمرت فترة زمنية قصيرة مقبلة، فإن من المأمول به، اليوم قبل الغد، أن يلتفت
المؤتمرون في رام الله إلى ما يحيق بالوضع الفلسطيني الراهن من مخاطر، وما يشارف عليه من منزلقات، يعرفونها هم قبل غيرهم من المراقبين والمتابعين، أحسب أن في مقدمتها نشوء ظرف قاهر يحول دون إمكانية عقد المجلس الوطني مرة أخرى في ما تبقى من أرض فلسطينية متاحة، كأن تمنع سلطات الاحتلال، بالقوة العسكرية المجرّدة، التئامه مجدّداً تحت أي ذريعة مختلقة، الأمر الذي يقتضي، ربما، تفويض صلاحيات هذا المجلس، وهو سيد نفسه، إلى المجلس المركزي، وتحويل الأخير إلى برلمان فلسطيني يقوم مقام المجلس التشريعي المعطل منذ أحد عشر عاماً، وهو المجلس الذي انتهت في واقع الأمر مدته، وانقضت شرعيته، وصار من الضروري استبداله بمجلسٍ منتخب، حين تسمح الظروف الموضوعية بذلك.
خلاصة القول إن الوضع الفلسطيني المثخن بالجراح، المثقل بالمصاعب، والمحاط بتحدياتٍ مصيريةٍ شديدة الوطأة على المستقبل المرئي، تتوفر له الآن فرصة سانحة، قد لا تتكرّر، للدفع بدماء شابة في عروق المؤسسة الفلسطينية، وتجويد أداء النظام السياسي القائم على ما يشبه المحاصصة التنظيمية، بتخليصه المناكفة البغيضة، ومن حالة التّرهل المديدة، وفوق ذلك اعتماد برنامج سياسي واقعي قابل للتحقق، يأخذ بعين الاعتبار سائر المتغيرات الإقليمية والدولية، وهو ما يفتح الطريق واسعاً أمام مرحلة فلسطينية جديدة، قد تستدعي إعادة النظر في الصيغة الفصائلية المعتمدة حالياً، وهي صيغةٌ عفى عليها الزمن مع الأسف، ولم تعد صالحةً كأساس تمثيلي لمجلس وطني جديد، بعد أن بات كثيرٌ من هذه الفصائل اسماً على غير مسمّى.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي