هذا الإعلان السياسي الفلسطيني

هذا الإعلان السياسي الفلسطيني

26 ابريل 2018
+ الخط -
يشعر المثقف الفلسطيني، المعنيّ حكما بالهم الوطني لشعبه، بمقادير ليست هيّنةٍ من الحرج، لقلة فاعليته في التأثير على المسار العام للقضية الفلسطينية في طورها الراهن، سيما مع استئثار مجموعاتٍ محدودةٍ ليس فقط بالقرار، وإنما أيضا بالمجال العام كله، وإنْ يُعايَن، على حوافّ هذا المشهد بصورتِه هذه، حضورٌ لتمثيلاتٍ لمجتمعٍ مدني، ناشطٍ أحيانا وخافتٍ أحيانا أخرى، فضلا عن حضورٍ ظاهرٍ لفواعل أهلية، يحدُثُ أن تعبّر عن نفسها بدفعٍ من تلك المجموعات المحدودة، في ضفّتي الموالاة والمعارضة. لا يستشعر المثقف الفلسطيني لنفسه موقعا بين هذا كله، ولا قدرةً في وسعها أن تؤكّد ما لمكانته من سلطةٍ واجبةٍ ولازمةٍ. وإنْ تتاح لهذا المثقف هوامشُ، غير ضيقةٍ غالبا، للتعبير عن اجتهاداته واقتراحاته. وليس هذا الأمر، كما يتم ترسيمه هنا بإيجاز (مخلٍّ ربما)، جديدا، بل هو موصولٌ بماضٍ بعيد، والتفاصيلُ غزيرةٌ بشأنه، لا تنشغل بها هذه الكلمات. 

مناسبة التذكير بهذه الحقيقة أن مثقفين فلسطينيين، أصحاب رأي وكتّاب وأهل خبرات وتجارب في العمل الوطني العريض، وعاملين في الأكاديميا والفكر والفنون والتعليم، وغير ذلك من أنشطةٍ تجيز لأهلها تسميتَهم مثقفين، تداعوا، الأسبوع الجاري، إلى إشهار "إعلانٍ سياسي إلى الرأي العام الفلسطيني"، حاز في منصّات التواصل الاجتماعي على انتباهٍ مقدّر. لا يدّعي من صاغوا الإعلان، ولا من وقّعوا عليه، أنهم أصحاب القول الفصل في "التعبير عن حقوق الشعب الفلسطيني، وتطلعات أغلبيته". وإنما يؤكّدون أنهم، على تنوّع منظوراتهم الفكرية والمستقلة، أفرادٌ، يجتمعون على قواسم مشتركةٍ، ويشتغلون على مبادرةٍ أو فكرةٍ تتوخّى تشكيل منبر أو ملتقى، للتعبير عن "قواسم مشتركة" لديهم. ويلحّون، في مختتم الإعلان، على أن مبادرتهم هذه، تصدر عن أشخاصٍ لا يعتبرون أنفسهم فصيلا جديدا، ولا جسما بديلا عن أي فصيلٍ أو أي أحد، ولا يدّعون وصايةً على أحد. وفي العموم، هم فلسطينيون من فلسطين كلها، ومن الشتات كله.
ويُطالع الناظر في بنود الإعلان أنها تتوخّى، إلى حد كبير، تحرّرا من سلطة الكيانات والمؤسسات الفلسطينية الرسمية، في حالها المنظور، على وجهة القرار الفلسطيني، سيما أن هذه التمثيلات شائخة، ومتقادمة، ومتكلّسة، ومتآكلة الشرعية. ولا يمكن لواحدنا إلا أن يتفق مع هذا التوصيف لراهن منظمة التحرير والسلطة الوطنية والفصائل والأحزاب والاتحادات الشعبية. ولا يطرح الإعلان رؤيةً انقلابية، أو تغييريةً جذريةً، بل يتوسّل صيغاً ممكنةً لتجديد هذه الكيانات، على أسسٍ ديمقراطيةٍ وتمثيليةٍ ومؤسسيةٍ، ووفق معايير ديمقراطيةٍ وكفاحيةٍ، تأخذ أسلوب الانتخابات حيثما أمكن، بعيدا عن المحاصصات الفصائلية، والتوافقات المصلحية و"الكوتات". ويطرح أيضا ضرورة الفصل بين السلطة والمنظمة، واستعادة وحدة الكيان الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وتعزيز العمل المشترك بين تجمعات الشعب الفلسطيني.
ولا يحصر هذا الإعلان السياسي النضال الشعبي ضد الاحتلال في صيغةٍ واحدة، وإنما يشدّد على النضال الشامل والمتكامل، وينهض أساسا على بناء المجتمع الفلسطيني، وتعزيز مقومات صموده فوق أرضه ووطنه. ويطلب وقف المفاوضات العبثية، والتخلص من علاقات التنسيق الأمني مع إسرائيل. ويميل إلى تبنّي النضال الشعبي بأساليبه الكفاحية المتنوعة، من دون استثناء وسائل النضال الأخرى التي أقرّتها الأعراف والقانونية الدولية، مع الأخذ في الحسبان خصوصيات الأجزاء المكونة للشعب الواحد، مع تفويت إمكانية اقتناص أي فرصةٍ لاستدراج إسرائيل الشعبَ إلى خوض مواجهاتٍ تستخدم فيها قوتها العسكرية الغاشمة، لاستنزافه، وتقويض قدراته، أو لتزييف الحقائق أمام الرأي العام العالمي.
وإذ يتيسّر الاطلاع على نص الإعلان لكل من أراد، فإن المأمول أن يُستقبل بما يستحقّه من نقاشٍ حيويٍّ، وبأي رأي أو نقدٍ ومؤاخذة، وأن تتكتّل جهودٌ ضروريةٌ من أجل إسناده بحوامل في الرأي العام الفلسطيني الذي يتوجّه إليه أساسا. وقد يُشار حينها إلى ما قد تُرى فيه من "وعظيةٍ"، مثلا، أو ما هو رغائبي، أو فوق واقعي. ولكن، من قال إن على المثقف ألا يُشهر غير الممكن، سيما عندما يتطلع إلى أن يصير غيرُ الممكن هذا ممكنَ التحقق. ومقصد هذه المقالة من التأشير إلى هذا الإعلان السياسي، الشجاع في عدم توسّله الشعبوية، أن تكون ركلة بدايةٍ من أجل تثوير نقاشٍ عميقٍ في شأنه، ومداولاتٍ أكثر تعيينا لكيفيّات إنفاذ مشتملاته في الواقع.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".