الكوميديا الانتخابية اللبنانية

الكوميديا الانتخابية اللبنانية

26 ابريل 2018
+ الخط -
يدخل الرجل إلى المطعم بخطى زعيم المحلّة. طقمه الكحلي ذو القصّة المدروسة يفيض عنه. مشْيته واثقة مطمئنة، وجهُه منحوتٌ بالحزم والنجاح. يقف الرجل على رأس طاولة تسع عشرين شخصاً، نفهم أنها "محجوزة". ينظر إلى النادل من علٍ، فقط ينظر، فيهرع هذا الأخير صاغراً، مؤكدا على "الحجز"، كأنه يعلم من يكون هذا الرجل. نحن جالسون بالقرب منه، نتابع توافد الأشخاص المنتظَرين لهذه الجلسة التي يبدو أنها خاصة. فمن الأول نخمِّن أن الرجل صاحب الطقم الكحلي وصحبه "لهم صلة ما بالانتخابات". ولكننا لا نتحقّق من حدْسنا، إلا عندما تكتمل الجلسة، بأعدادها الدقيقة، ولا كرسي واحدا فارغا: ثمانية عشر رجلا وامرأتان. ولا واحد منهم يرتدي طقماً. كلهم "كاجويل"، بل أحدهم جاء بلباس الرياضة وحذائه الغليظ. كلهم طرب لأقوال صاحب الطقم الكحلي، يعدِّد مزايا "فريقهم"، يصف نشاطهم السابق مع "الناس"، يُغدق عليهم الكلام المشجِّع، والتشكرات على أنواعها. كل هذا وهم يتناولون الطعام اللذيذ الذي يشتهر به هذا المطعم. ولكن شهيتهم سريعة، يأكلون كأنهم يتلقفون الطعام. ثم بعد حين، قليل، دقائق ربما، يتوقف صاحب الطقم الكحلي عن الطعام، كأنه يطلق صفارة إنذار.. وبحركةٍ واحدة، يرفعون رؤوسهم إلى فوق، يجْمدون، ويأخذون بالإصغاء إلى تعليماتٍ مقبلةٍ عليهم تنفيذها. وهو الآن يحدِّق بهم. ما قبل الطعام كان لطفاً وغواية. وبعده صار أوامر، يُصدرها صاحب الطقم الكحلي بالوجاهة نفسها التي لبسها مع طقمه. من يكون هؤلاء بالضبط؟ إنهم "مندوبون" انتخابيون بحضرة "المفتاح الانتخابي". وكما هو واضح، لا يخفون نشاطهم عن آذان "الناس"، وعيونهم.
حسناً الآن: من هو "المفتاح الانتخابي"؟ إنه الإشعاع الذي ينير لك وجهاً من وجوه الانتخابات النيابية اللبنانية. إنه صاحب الدور الأعظم في خدمة المرشحين. واسمه على كسْمه: "مفتاح"، أي أنه يملك كنزاً ثميناً، مغارة، تؤمن الطريق السالكة نحو أصوات المقترعين، المسجَّلة 
أسماؤهم على الجداول الانتخابية. مؤهلات المفتاح الانتخابي، كما يعرضها هو نفسه: إنه "صاحب شعبية"، "قائد رأي"، ذو "مصداقية" وسط أبناء منطقته. فيما هو في الواقع "سمْسار" يعقد الصفقات التجارية مع المقترعين. وهؤلاء الأخيرون يقسِّمهم المفتاح الانتخابي إلى ثلاثة: موالٍ ومتردّد ومعادٍ. وفيما لا أمل من الأخير، أي المعادي، وفيما يكون قد تحدّد "سعر" الموالي مسبقاً، أو قبضه، ولا مفاجآت.. يبقى المتردِّد. والمتردّدون "يفاصلون للحصول على أعلى الأسعار". وقد يختارون حتى اللحظة الأخيرة لتحقيق أكبر قدر من "الربح". وتكون الكارثة عليهم "إذا تبيَّن أن نتائج الانتخابات أتتْ لصالح مرشح على آخر في وقتٍ مبكر خلال اليوم الانتخابي".
بعد ذلك، يقوم المفتاح الانتخابي بمراقبة الاقتراع نفسه، ليتأكّد من أن الذي وعد بإعطاء صوته، أو باع صوته، كان صادقاً. المفتاح الانتخابي ومعاونوه يوجدون في مراكز الاقتراع لهذه الغاية. والعقوبة تقع على المقترع الذي "تخلّف عن وعده"، فتتم معاقبته عن طريق "حرمانه من الخدمات"، أو من الدفعة الثانية من الرشوة.. ومن الأنشطة المضحكة المبكية للمفتاح الانتخابي أنه "يدفع المال للناس كي يحملوا اللافتات دعماً لزعيم سياسي معيَّن. وقد يتم استخدام هؤلاء الأشخاص أنفسهم في اليوم التالي ليحملوا لافتاتٍ تدعم زعيما آخر".. ومن السوالف التهريجية الناجمة عن هذه الأنشطة أن أحد المفاتيح الانتخابية دفع للمصورين أموالاً "كي يُبعدوا العدسة لعدم الكشف عن وجوه (المناصرين)، من أجل استخدامهم في حملاتٍ أخرى، يرعاها طرف آخر".
كل هذا ونحن نتكلم عن "العامة" من المواطنين الذين يستهدفهم نشاط المفتاح الانتخابي. أما "النخبة"، فلا تختلف جذرياً. ولكي تؤثر على "الرأي العام"، تُرشى هذه "النخبة" بأموال وهدايا قيّمة: الصحافيون، "كي يكتبوا مقالات إيجابية" عن هذا أو ذاك، ثم الخبراء "ليعطوا صورة إيجابية عن برامج هذا أو ذاك"، وأخيراً، "المسؤولون الأمنيون والإداريون كي يتغاضوا عن ممارسات غير قانونية، أو لمنح عدد أكبر من التصاريح للمندوبين".
المفتاح الانتخابي مواطن "عضوي"، مندمج بمجتمعه أو بحيّه، بقواعد صارمة لا تشوبها المبادئ. يملك درجةً أعلى من غيره في الهرمية الحاكمة لهذا المجتمع. هو بمثابة وجيه محلي، صاحب القَدْر. لذلك تراه ناظراً إلى نفسه بثقة العالم من أين تؤكل الكتف. لكنه يتوجه هو أيضا إلى مواطن - ناخب لا يقلّ عنه "عضويةً". مواطن مندمج بنظامه، عالِم بخباياه، يحاول الاستفادة منه، ولو بأدنى الأسعار، بأدنى الخدمات، مثل أن يأتي الزعيم المرشح، أو من ينوب عنه لتقديم العزاء. مواطن متواطئ مع السلطة، لا يهمّه أنها تدمّر الدولة، "يُرتشى" بأبخس الأثمان، وينفخ مزيدا من الروح في عملية التدمير هذه.
لكن يجب عدم تحميل المفتاح الانتخابي أكثر مما يحمل. هو "سمْسار" موسمي، يجني الكثير 
في هذه الأوقات الانتخابية المقْلقة. وقد تكون له مهنة، أو لا تكون. ووقت فراغ طويل خلال سنوات القحط الانتخابي. هو جزءٌ من الكوميديا الانتخابية التي يكملها القادة في أثناء جلوسهم على عروشهم: فخارج هذه الكلفة "الشعبية" للانتخابات، الزهيدة، ثمّة آلة أعظم منها، شغّالة على الدوام، تستغني عن المفتاح الانتخابي، وتقوم بوظيفتها كأنها مزيَّتة، من دون جميله. إنها آلة الرشوة في الدولة العميقة، للمرتشين الأعلى كعباً: حيث التوظيفات والإعفاءات والتلزيمات والتعيينات والحمايات.. تتجاوز الرشوة الرخيصة ثمناً، و"أماناً"، إذ تبني حصوناً من الولاء، لا تهزّها سوى "خيانة" أحد المرتشين لصالح راشٍ آخر.
منذ أشهر، أين كان المفتاح الانتخابي عندما صعدت الشتائم بحق "الطبقة الحاكمة" "والزعماء الفاسدين"، ومعاهدة النفس على عدم التصويت لهؤلاء.. أبداً أبداً، بحق السماوات كلها. غضب منعش، في ذاك المناخ الضَجِر المنزعج. ولكن الآن، ومع اقتراب موعد الانتخابات، يغرق الغضب وتغرق نداوته في بحرٍ من الرشاوى الرخيصة، فيتجدّد التواطؤ القديم بين المواطن والسلطة: أنا أصوِّت لكَ شرط أن تقدم لي الخدمة الفلانية.. ولتخْرب الدولة بأسرها! مواطن ضيق، بضيق أمله. يذعن لليأس الانتخابي. لا يرى إمكانيةً لتغيير أي شيء، ولو بسيط، حتى في كومة النفايات الواقعة على مدخل بيته.. فيهمس لنفسه بأن "إلحقي" هذه النعمة القليلة التي قد تفوتنا.
* المعلومات الخاصة بـ"المفاتيح الانتخابية" مأخوذة من تقرير ميداني، مقابلات مع ممثلين عن الأحزاب تولوا إدارة الماكينات الانتخابية. عنوان التقرير "الانتخابات اللبنانية: استراتيجيات خفية لكسب الأصوات". بقلم سامي عطا الله وزينة الحلو. ونشر في مارس/ آذار 2018 في موقع المركز اللبناني للدراسات.