على الناصية

على الناصية

25 ابريل 2018
+ الخط -
مثل معظم بنات وأبناء جيلي، لم يكن يربطنا بالعالم الخارجي سوى هذا الجهاز الصغير، "الراديو" الذي استغرب ابني الصغير وجوده في درج معتم، وصاح مندهشاً: هناك مذياع في بيتنا، ولم يكن يعرف أي علاقةٍ كانت قائمة بين أمه وهذا المذياع. وكنت أقلد أمي التي لم يكن المذياع يفارقها لحظة. وبالطبع كنا نتابع الإذاعة المصرية؛ ولذلك وقعت على برنامج مميز، وهو "على الناصية".
سرح خيالي الغضّ بالضيوف الذين تلتقيهم المذيعة حسنة الصوت، والمحاورة بذكاء واقتدار، وحفظت اسمها، آمال فهمي، ولكني كنت أتخيل أن اللقاء على ناصية أي شارع لا يتعدى تبادل التحية العابرة، وبضع أسئلةٍ عن الأحوال تكون إجابتها سريعة ومقتضبة ومعتادة، كما علمتنا أمي عن آداب الطريق، لكن المذيعة آمال فهمي كان لقاؤها مع أحد المارة الذين كانت تردد في كل مرة أنها تلتقيهم على الناصية يطول ليستغرق أكثر من نصف وقت البرنامج.
ناقشت أمي في وجهة نظري، فضحكت وأخبرتني بسر "الصنعة" عند المذيعين ومعدّي البرامج، وتعجبت أنني لم أستنتج بذكائي الذي تتوقعه أن الحلقات واللقاءات يتم الإعداد والترتيب لها مسبقاً. وبالتنسيق مع الضيف الذي تطلق عليه المذيعة المتمكّنة تعبير "أحد المارة"، وتحدّد اسم ناصية الشارع التي التقت به عندها.
أخبرتني أمي أنها قد اتصلت، في إحدى المرات التي كانت تزور فيها القاهرة، بأحد هواتف البرنامج، لكي تتم استضافتها، وأنهم بالفعل حدّدوا لها موعداً للقاء، لكن موعد سفرها إلى فلسطين قد حان، وغادرت من دون أن تلتقي بهم. ولم تخبرني أمي عن محور الموضوع الذي كانت ستتحدث به، وربما كانت ستتحدث عن رحلة السفر بالقطار من فلسطين إلى مصر، وكم كانت تستهويها تلك الرحلة، وبأنها واقعةٌ في غرام كل التفاصيل في "أم الدنيا".
وفهمت اللعبة، وبدأ خيالي ينحسر مع متابعة حلقات البرنامج، خصوصا حين التقت المذيعة آمال فهمي بأحد المارة، حسب تعبيرها، وبدأ يتحدث بإسهابٍ مطول ولافتٍ عن خطأ شنيع، وقعت فيه إحدى المطابع المصرية بحق طباعة نسخٍ جديدة من القرآن الكريم، وذكر اسم السورة القرآنية، وحدّد الصفحة ثم السطر الذي وقع فيه الخطأ، وكان الخلط بين أداة تنوين فوق أحد الحروف، ولست أحسب أن أحداً قد اهتم بتصويب الخطأ.
كبرنا وانتهت علاقتنا بالمذياع، لتحل محله وسائل ترفيه وتواصل أخرى، ولم أعد أتابع المذيعة آمال فهمي التي ارتبط اسمها بالإذاعة المصرية وترقت في عدة مناصب، والتقت بكبار الشخصيات السياسية والفنية داخل مصر وخارجها، وهي المذيعة الوحيدة التي حصلت على جائزة مصطفى وعلي أمين للصحافة، بسبب ربطها بين الصحافة والإذاعة، وقد حصلت أيضا على لقب "ملكة الكلام" في استفتاء موسع أجري في دول عربية عديدة.
رحلت الإذاعية آمال فهمي عن عمر 92 عاماً. ويمكن أن ننعاها بقولنا: إنها إذاعية وإعلامية من الزمن الجميل، وعلى الرغم من أن حلقات برنامجها كانت بترتيب مسبق مثل كل البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تتبع الأسلوب نفسه حتى اليوم، لكنها لم تنحدر إلى المستوى الذي وصلت إليه بعض المذيعات اللامعات في الوقت الحالي، حيث نسبت إليهن تهمة فبركة مشكلات للضيوف وتلفيقها؛ لحصد الإعجابات للبرنامج التلفزيوني، من دون أي التفاتٍ لسمعة الشعب وصورته أمام العالم، والاستعانة بممثلات كومبارس لتمرير قضايا مثيرة للجدل، مثل تلبس الجن بالإنسان. كما أنها لم تحنث بوعودها مع الضيوف، بل ساهمت في جمع التبرعات لمرضى القلب والأورام، على النقيض مما حدث مع إعلامياتٍ لا يملكن سوى جمالهن موهبة، وحيث حولن مشكلات الناس إلى فضائح لهم، وتخلين عن وعودهن التي أطلقنها على الهواء مباشرة.
ولذلك، وعلى الرغم من أن المذيعة الراحلة آمال فهمي واكبت كل رؤساء مصر، إلا أنها ظلت تسعى خلف مشكلات المواطن المصري وهمومه، حتى أصبح أمل هذا المواطن البسيط أن يلتقي بالإذاعية الراحلة في برنامج كان اسمه "على الناصية".

دلالات

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.