عن الإسلاميين والحكم المحلي في تونس

عن الإسلاميين والحكم المحلي في تونس

25 ابريل 2018
+ الخط -
لا أحد يجادل اليوم في هيمنة حركة النهضة على الخريطة الحزبية الإسلامية في تونس، واعتبارها ناطقا وحيدا باسم الإسلام السياسي التونسي، على الرغم من محاولات تقصيها من هذا الانتماء، لما علق به من وصمة ونعوت تصل حدّ الإدانة، والاستعاضة عنه بما يسميه قادتها الإسلام الديمقراطي، للبريق الذي يحدثه المصطلح، كلّما تم تداوله في الأوساط الأكاديمية والسياسية الغربية، فقد اختفت التنظيمات الإسلامية الأخرى من المشهد السياسي الديمقراطي، بعد أن اختار حزب الإصلاح والتنمية، لسان حال الإسلاميين التقدميين، حلّ نفسه بعد الانتخابات التشريعية سنة 2014 التي لم يفز فيها بأي مقعد نيابي، وانضمام أمينه العام إلى المكتب السياسي لحركة النهضة، واختيار تنظيم أنصار الشريعة الإسلامي، المعروف سابقا بالجماعة التونسية المقاتلة، بقيادة أبي عياض سيف الله بن حسين، فسطاط التنظيمات الإرهابية التي تستهدف الدولة، وإسقاطها وتفكيكها بالعنف المسلح، مبشّرة بالإمارة الإسلامية بديلا عنها، ورفض حزب التحرير الإسلامي الانخراط في اللعبة الديمقراطية، والاعتراف بالدستور والمؤسسات المنبثقة عنه، على الرغم من وجوده القانوني، والاكتفاء بالدعاية لأفكاره بالوسائل المتاحة والتعبئة وتنظيم أنصاره، استعدادا لليوم الموعود.
أبدت حركة النهضة حماسة لافتة للانتباه للحكم المحلي، واستماتت في الدفاع عن الانتخابات المزمع إجراؤها في 6 مايو/ أيار المقبل، واعتبرتها أولوية مطلقة في هذه الفترة الهشّة من تاريخ تونس المعاصر، ولم تدّخر جهدا في ترميم النصوص القانونية والهيئة الدستورية، 
المتعلقة بها، مثل القانون الانتخابي، حتى أنها قبلت بمشاركة الأمنيين والعسكريين، بعد أن كانت تعارض ذلك بقوة، ومجلة الجماعات المحلية الجاري مناقشتها في البرلمان، وسدّ الشغورات في الهيئة المستقلة للانتخابات، وتقديم التنازلات السياسية المفضية إلى تثبيت السلطة التنفيذية، وخصوصا رئيس الدولة الباجي قائد السبسي، الماسك بجميع خيوط لعبة السلطة، موعد الانتخابات.
لحركة النهضة ثأر كبير مع المشاركة السياسية ككل، والانتخابية خصوصا، فقد استدعى الاعتراف القانوني بها نحو أربعة عقود منذ ظهورها سنة 1972 جماعة إسلامية، مرورا بإعلانها سنة 1981 اتجاها إسلاميا، وصولا إلى الاعتراف بها سنة 2011 حزب حركة النهضة، وقد شاءت الأقدار أن يكون المُعترف بها أحد رجال دولة بن علي، الأشرس عداوة للنهضويين، أي وزيره الأول محمد الغنوشي، في حكومته الثانية، بعد عقدين من النزاعات الدموية والصراع على السلطة آلت إليه الحياة السياسية بعد انتخابات 1989 التشريعية التي يعتبرها الإسلاميون مزوّرة، ومدخلا نحو الحكم الاستبدادي الذي استمر عشريتين كاملتين.
ويبدو أن شراهة حركة النهضة الإسلامية تجاه السلطة وممارسة الحكم لم تشبعها نتائج انتخابات سنة 2011 التي انبثق عنها المجلس الوطني التأسيسي، وتشكيل حكومتي الترويكا الأولى والثانية، وبعد الفوز الجزئي في الانتخابات التشريعية لسنة 2014، المؤدي إلى التحالف مع حزب نداء تونس، على قاعدة مقاربة الشيخين، راشد الغنوشي والباجي السبسي، التي ارتسمت في اجتماع باريس الذائع الصيت سنة 2013، والمشاركة في حكومتي الحبيب الصيد ولو جزئيا، وفي حكومتي الوحدة الوطنية التي شكلها يوسف الشاهد.
اختار حزب حركة النهضة المشاركة في الانتخابات البلدية، والترشح في كل الدوائر، وعددها 350 دائرة، ما يفيد بأن هذا الحزب سيكون ممثلا في كل المجالس البلدية، ناهيك أنه سيحتكر بعض الدوائر بمفرده، لغياب منافسين له، أو لضعفهم الناتج عن انعدام خبرتهم الانتخابية، وعجزهم الاتصالي والدعائي وفقدانهم القدرات اللوجستية والمالية التي تمكّنهم من الوصول إلى الناخب، وإقناعه ببرامجهم ورؤاهم المستقبلية.
أربع تجارب انتخابية لها مآلات مجتمعية دقيقة، وجب على الإسلاميين التونسيين أن يضعوها نصب أعينهم، ويدرسوها جيدا، ويستخلصوا منها الدروس والعبر، وهم ينخرطون بما أوتوا من قوة مالية ودعائية، مردّها مشروعهم الدولي، ورأسمال بشري ضخم، واستثمار تاريخي ورمزي لانتمائهم الإسلامي، وتوظيفه في معركة سياسية صرفة، كانت دائما محكومة بخلفية التمكين والتموقع، وسدّ المنافذ والفراغات، هي التالية:
تمثُل نتائج الانتخابات المحلية والتشريعية الجزائرية سنتي 1990 و1991 التي اكتسحتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وفازت بأغلبية المقاعد النيابية والمجالس البلدية والولايات، وقد كانت نتائجها مقدمة معركة حامية الوطيس على السلطة، استحالت حربا أهلية، قضى فيها مئات آلاف الضحايا عشريتين كاملتين، عرفت بالحقبة السوداء في تاريخ الجزائر، وانخرط فيها إسلاميو الجزائر، مستخدمين كل الوسائل المتاحة، فتحولوا إلى عدو رئيسي للدولة الجزائرية، وأخرجوا نهائيا من دائرة الفعل والمشاركة السياسيين.
استحضار نتائج انتخابات 1989 في تونس التي استخدمها بن علي وسيلة لكشف القدرات البشرية والتنظيمية للإسلاميين التونسيين الذين تقدموا إلى تلك الانتخابات بقوائم مستقلة، عُرفت بالقوائم البنفسجية، في مشهدٍ لا يخلو من الاستعراض والتحدي. كانت النتيجة مزورة، ومدخلا للتأسيس لحياة سياسية صورية، ولتعدد شكلي استمر إلى سنة 2011، صاحبه آلاف المعتقلين الإسلاميين والضحايا والمنفيين، والتعطيل الكامل لديناميكية المجتمع سياسيا، وحرمان التونسيين من حقهم في الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة وقمع كل مكونات المجتمعين، السياسي والمدني، وقيام الدولة الأمنية والعائلية، مطلقة الصلاحيات والمهام والوظائف.
الوقوف على تجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي أنهاها الجيش المصري يوم 30 يونيو/ حزيران 2013 في مشهد دراماتيكي، أدى إلى سجن كل قادة الحركة الإخوانية، بمن فيهم محمد مرسي، الفائز في الانتخابات الرئاسية سنة 2012، وسقوط آلاف الضحايا وتوسع رقع الدم وانفتاح مصر على ما يشبه الحرب الأهلية التي لا تزال تداعياتها قائمة، والانتهاء من ثورة يناير التي سقط فيها الشهداء بهدف إنهاء حكم حسني مبارك وحزبه الواحد وعائلته، ودولة المخابرات التي استمرت ثلاثة عقود.
نقد تجربة حكم الإسلاميين في فترة الترويكا التي كان من نتائجها المأساوية اغتيال الشهيدين 
شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والجنود في الشعانبي سنة 2013، وبقطع النظر عمّن خطط ونفذ، والغرض السياسي من الاغتيالات التي أدت إلى سقوط حكومة الترويكا الثانية، فإن فوز الإسلاميين ينفتح على مثل تلك الاحتمالات المأساوية القابلة للتكرار والمعاودة.
يخوض الإسلاميون التونسيون الانتخابات المحلية في مناخ إقليمي ودولي لم يقبل بهم بعد، على الرغم من الخطوات الحثيثة التي قاموا بها، والتنازلات العميقة التي قدموها داخليا لفائدة مراكز قوى دولة الأعماق، وحزبها الممثل لها، نداء تونس، وخارجيا لفائدة لوبيات صنع السياسات والقرارات في الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، والوعود التي ألزموا أنفسهم بها، خصوصا في ما يتعلق بالاختيارات الليبرالية الكبرى للبلاد القائمة على فلسفة اقتصاد السوق. ويخطئ الإسلاميون التونسيون عندما يتعاطون مع المشهد الانتخابي وإفرازاته المحتملة على أنه معطى داخلي محض. ويُخشى أن يكون يوم 7 مايو/ أيار المقبل الذي ستعلن فيه نتائج الانتخابات مختلفا عما سبقه من أيام، وأن تلك النتائج ستكون المقدمة والأداة التي ستجهض المسار الديمقراطي برمته، إن تأكد الفوز الكاسح للإسلاميين والعودة بالبلاد إلى مربّع الاستبداد الأول، واستتباعاته الوخيمة، بعد التضحيات الكبيرة التي قدمتها الطبقة السياسية المعارضة، والنخب الفكرية والمدنية المتحرّرة على مدى نصف قرن أو يزيد، فالسياسة ليست مجرّد نهم للسلطة وكرسي الحكم، وإنما هي قراءة عقلانية في توازنات القوة والحفاظ على المكاسب السياسية، وحقن الدماء، وحسن اختيار القضايا المرتبطة بها وحماية المجتمع من المعارك المدمرة والحروب الأهلية القاتلة.