خريف الإسلاميين في المغرب

خريف الإسلاميين في المغرب

03 ابريل 2018
+ الخط -
يتجه حزب العدالة والتنمية؛ قائد الائتلاف الحكومي في المغرب، بخطىً سريعة نحو الانصهار في بوتقة الأحزاب المخزنية (المرتبطة بالقصر)، بعد توالي الضربات عليه؛ داخليا وخارجيا، حتى فقدَ الوهج الذي كان يُميزه في مشهد سياسي مُعتل.
انتقل الحزب في ظرف قياسي من صفوف المعارضة إلى قيادة أول حكومة، بعد دستور 2011؛ عقب أحداث الربيع العربي، مع الاحتفاظ بخطاب المعارضة في نهاية الأسبوع، ليستقر أخيرا؛ في ظل قيادته الجديدة، على خيار تنفيذ التعليمات الصادرة عن مدبري المشهد السياسي خلف الكواليس. خيار حتمي لا مفر منه؛ بحسب كثيرين، فالحزب خرج منهكا من معركة الانسداد السياسي (البلوكاج)، قصد تشكيل حكومةٍ اختلفت التقديرات بشأنها، بين من اعتبرها إنجازا لذاتها؛ متناسيا أنها مجرد وسيلة وليست غاية، ومن تحفَّظ على الهندسة النهائية لتركيبتها، ما خلّف تداعياتٍ كبرى على وحدة الجسم الحزبي.
لا يستقيم الحديث عن الحتمية في سياق الصراع السياسي، فالسياسة في البدء والمنتهى "فن الممكن" الذي لم يُتقنه جيدا رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، حين ضيَّع على نفسه فرصة تاريخية، بعد انتخابه على رأس الأمانة العامة لحزب المصباح، ليصنع مسار زعيم سياسي قادر على منافسة رمزية وكاريزما زعيم من حجم الأمين العام السابق، عبد الإله بنكيران.

كانت أمام الرجل فرصة ذهبية، كي يطرح بدائل أخرى أمام أعضاء الحزب؛ تتوافق مع التطورات الدقيقة للمشهد السياسي المغربي، بعيدا عن خيار الانتصار لشرعية الصندوق، بما يعنيه ذلك من مواجهة والاصطدام مع السلطوية الذي تبناه بنكيران. بدائل كانت ستمكّنه داخليا من الحفاظ على وحدة الحزب وانسجامه، وتسمح له باستثمار الرصيد الانتخابي للانتصارات المتوالية (2011، 2015، 2016). ويضمن بها للحزب خارجيا مسافة أمان في علاقته مع السلطة، حتى يبعد عن شبهة تحويل الحزب إلى مجرد دكان سياسي، يضع خدماته رهن إشارة السلطوية.
برع إخوان المغرب تاريخيا في تبني أسلوب برغماتي، كلما فرضت ضرورة معينة ذلك؛ ما جعل تجربتهم نوعية قياسا إلى باقي الإسلاميين داخل المغرب وخارجه، حتى عُد نقطة قوة الحزب التي مكّنته من تجاوز أزمات هدَّدت وجوده (اعتداءات الدار البيضاء مثلا).
يُدرك العثماني قبل غيره أن وصوله إلى الأمانة العامة جاء في ظل انقسام غير مسبوق في تاريخ الحزب، فقد انتخب بأغلبية ضعيفة؛ لم تتجاوز نسبة 1% (1024 مقابل921)، في مواجهة إدريس الأزمي، وهو منافس مغمور من رجال الظل داخل الحزب. ما يرجح فرضية ركونه إلى البرغماتية، قصد ضمان تدبير سليم لهذه المرحلة الحساسة، من خلال استيعاب كل الأطياف والآراء والتوجهات داخل الحزب، والعودة إلى خيار التيارات (الصقور/ الحمائم).
كانت لحظة انتخاب أعضاء الأمانة العامة فرصة لإعادة تلك التجربة، بالسماح للأصوات المحسوبة على تيار بنكيران، والمنتقدة لاختيارات رئيس الحكومة الجديد بالحضور فيها كأعضاء. وبذلك يُوقف الشرخ المتنامي في أوساط الحزب، بعد إعفاء زعيمه، من خلال إيجاد توازن (أنصاره في الحكومة/ منتقديه في الأمانة العامة) سيكون أول المستفيدين من ثماره.
لم تذهب تقديرات الرجل في هذا الاتجاه، ولم ير باقي أعضاء الأمانة أية ضرورة لإعادة ثنائية التيارات التي طالما حسموا بها معارك عدة في مواجهة السلطة. بل حرصوا على دعم أنصارهم ومسانديهم في مختلف الهياكل ومواقع المسؤولية داخل الحزب، لأن غاية بلوغ السلطة تحققت، يبقى الأهم هو الحفاظ عليها مهما كان الثمن.
لأجل ذلك، وحتى يضمن العثماني ومشايعوه إسكات الأصوات المزعجة من داخل الحزب، والتي لا تتردَّد، من حين إلى آخر، في تذكيره بمعركة الحزب الحقيقية، والانحرافات التي لحقت بمساره، اهتدى إلى فرض مدوّنة للسلوك، قصد ضبط أعضاء الحزب من خلال "الالتزام بالمواقف الرسمية المعبر عنها في البيانات أو البلاغات الصادرة عن الأمانة العامة أو عن الأمين العام للحزب، والانسجام في التواصل الخارجي مع تلك المواقف".
بهذه المدونة، تكون قيادة "المصباح" قد قطعت شوطا كبيرا، في مسار إلغاء إحدى الخصائص التي ميَّزت الحزب في الساحة السياسية المغربية، فيما يشبه نوعا من التناقض مع ذاتها. ففي عز هيجان الشارع المغربي، تفاعُلا مع الربيع العربي، تمردت رموز قيادية، مثل سعد الدين العثماني ومصطفى الرميد... وآخرين، ممن يفرضون هذه المدونة اليوم عن قرار الحزب حينها، وخرجت للتظاهر في الشارع العام. وتخِّل أيضا بإحدى الركائز الخمس التي كانت منهج عمل الأمين العام السابق عبد الإله بنكيران، والتي قدّمها في المؤتمر الاستثنائي للحزب مقومات لإعادة وضع الحزب على السكة الصحيحة، وهي تباعا: حرية الرأي، واستقلالية القرار الحزبي، والديمقراطية الداخلية، والثقة، والمرجعية الإسلامية.
النهج الذي بدأت قيادة "العدالة والتنمية" الجديدة تفرضه، يأتي في الدرجة الأولى تفاعلا مع
متطلبات السلطوية التي أبعدت بنكيران عن رئاسة الحكومة، لأنها لم تعد قادرةً على تحمل "ازدواجية الخطاب"؛ أي وضع رجلٍ في الحكومة وأخرى في المعارضة خمس سنوات أخرى. وسعيا منها إلى إسكات الرجل ومسانديه الذين يزداد حجمهم تدريجيا. وذلك كله قصد تقديم الدليل على نجاحها في مهمة التحكم في دواليب الحزب، وضبط توجهاته.
وفي مرتبة ثانية، حرصا من هذه القيادة على تأمين استمرارية التحالف الحكومي، وضمان الأغلبية التي أضحت مهدّدة بالانفجار بين الفينة والأخرى، بسبب الضغط المتواصل للرباعي الحزبي الذي يقوده زعيم "التجمع الوطني للأحرار"، عزيز أخنوش الذي وصل في بعض اللحظات إلى درجة التخلف عن مواعيد سياسية حكومية.
يوم بعد آخر، يتأكد أن قيادة حزب العدالة والتنمية الحالية تتجه نحو تكرار تجربة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 2002؛ مع فوارق واختلافات طبعا. متناسية أن الحياة السياسية المغربية حبلى بتجارب لأمثالهم، ممن زيَّفوا الحقائق، وقمعوا الاحتجاجات، وبرَّروا الواقع.. مدافعين وباستماتة عن المخزن، طمعا في جعل نيل الحظوة والرضى، قبل أن يلفظهم السياق بعيدا إلى الهوامش، بعدما ساهموا في فصل من فصول مسرحية "الانتقال الديمقراطي الموعود".
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري