حكم قراقاش

حكم قراقاش

03 ابريل 2018
+ الخط -
من حسن حظنا، نحن العرب، أن حظينا بأحكام "قراقوش" مرتين. الأولى في القرن الخامس الهجري، على يد الأمير قراقوش بن عبد الله، الخصيّ الرومي زمن الفاطميين. والثانية على يد وزير الدولة لشؤون الخارجية الإماراتي محمد "قراقاش" في العصر الجاهلي "الحالي".
ولئن كان لقراقوش الأول شطط الأحكام الغريبة والعجيبة، بدءًا من الفلاح الذي استجار به لينصفه من اعتداء أحد الجنود على زوجته الحامل، فتسبب في إجهاضها، فما كان من قراقوش غير أن حكم على الجندي بأن يضاجع زوجة الفلاح، حتى تحمل مرة أخرى. مرورًا بحكمه الغريب على أحد الدائنين بالسجن، ريثما يجده المدين ويسدد له دينه، وليس انتهاء باشتراكه في تدوين حقبة من التاريخ المصري، على اعتبار أنه "ملمٌّ بالتاريخ"، فلئن كان قراقوش الأول كذلك، فإن لقراقاش الثاني أحكامًا لا تقل غرابةً.
علينا أن نقر ونعترف أن سطوع نجم "قراقاش" الثاني لم يأت اعتباطًا، بل جاء مدروسًا تمامًا، من قادة الإمارات الذين أرادوا لهذا "القاضي" أن يلعب دور "البديل" في الشؤون الخارجية، عوضًا عن وزير الخارجية الأصيل، عبدالله بن زايد آل نهيان، إذ لا ينبغي لأبناء زايد أن يظهروا بمثل هذا المظهر الساخر في أحكامهم وقراراتهم، ولا بأس أن يتلقى "البديل" سهام النقد والسخرية من المراقبين والمتابعين، عندما تضطر الدولة إلى محاولة رتق تداعيات قرارٍ ما، يثير استهجان العرب وسخطهم على سياساتها الغريبة.. وإلا فما الحاجة إلى وزيرين لحقيبة واحدة: وزير خارجية ووزير دولة للشؤون الخارجية؟
غير أن جهابذة المخططين في الإمارات لم يدركوا، وهم يسلمون "قراقاش" ألسنتهم لينطق بها، أنه سيغدو رمزًا للدولة "القراقوشية" برمتها. وفي مثل هذا الوضع، يصبح أي قرار أو تصريح أو تلميح يصدر عن أي جهة رسمية في الدولة، منسوبًا في أذهان المتلقين إلى "قراقاش" نفسه. وفي هذه الحالة، بات صعبًا الفصل بين الطرفين في زمن المهازل العربية هذا.
عمومًا، من "أحكام قراقاش" الثاني اتهاماته المكرورة لقطر بأنها "تدعم الإرهاب" في غير مناسبة، ويتناسى "فضيلته" ما تفعله دولته في اليمن حاليًا من احتلالٍ مكشوفٍ لجزء من أراضيه. وما تلقيه قاذفات الإمارات الحربية من صواريخ مدمرة على أطفال هذا البلد ونسائه، وما تسجنه معتقلاته التي تدار بشركات أميركية قذرة من أبنائه.
وقبل هذا وذاك، يتناسى "قراقاش" ما فعله زعماؤه من التفاف إرهابي على ثورة الشعب المصري، وقتل شبابه في ميادين التظاهرات والاعتصامات، ثم الإتيان بمهرّج لا يقل عن قراقوش سخريةً ليحكم شعب النيل العظيم. ويتناسى، أيضًا، أن دولته لعبت أقذر الأدوار في إجهاض ثورات الربيع العربي كلها، وخصوصًا في سورية، لإفشال ثورة الشعب السوري التي بدأت عفوية، وانتهت دموية.
ومن أحكام "قراقاش" الثاني، كذلك، التفافه الإرهابي على التقارب الأردني التركي الذي رأى فيه تهديدًا لمصالحه، هو الذي سعى إلى دعم الانقلاب العسكري التركي الفاشل ضد الرئيس أردوغان، بعد أن رأى فيه قائدًا يحاول استعادة ولو جزء يسير من هيبة الشعوب الإسلامية الممرّغة بوحول التهميش، على النقيض مما تسعى إليه الإمارات من تفتيت فوق التفتيت الحاصل للهوية، بل للجغرافيا العربية برمتها، إن أمكن.. وفي المحصلة، نجح "قراقاش" في فض التقارب الواعد بين الأردن وتركيا، والضحية، بالطبع، هي القدس التي احتجّ الأردن على القرارات الأميركية بشأنها، ولا حاجة للقول هنا إن "قراقاش"، ومن لف لفه من قادة السعودية ومصر، يرون أن موضوع القدس شأن "ثانوي" لا ينبغي أن يعيق "مسيرة السلام" التي ينبغي إحياؤها وفق أية رؤية أميركية وإسرائيلية، مهما بلغت درجة إذلالها العرب.
لا عدّ لأحكام "قراقاش" الثاني، بما فيها الحكم الصادم الأخير، بمشاركة الجيش الإماراتي في مناورة مشتركة مع الجيش الإسرائيلي "الوديع" الذي لم تجفّ فوهات بنادقه من دم الفلسطينيين بعد، ما يجعلنا في ذروة الخشية من "حكم قراقاشي" قادم، ربما يتجاوز، بكثير، إعلان الوحدة بين أبوظبي وتل أبيب.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.