بين الصين والهند

بين الصين والهند

03 ابريل 2018
+ الخط -
من الغريب أن تحليلات حول التغيير المتوقع مستقبلاً على النظام العالمي، انطلاقاً من النمو الاقتصادي، تميل إلى الاعتقاد بأن الهند أقرب من الصين، لتحقيق مكانةٍ عالميةٍ تفرض من خلالها نفسها قوة عظمى جديدة، لها دورها ووزنها وتأثيرها في السياسة الدولية. وبالنسبة لي، متابعا للشأن الصيني، ومطّلعا على الحالة الهندية، تثير تلك التحليلات السخرية.
فحتى الهند لا تفعل ما ينطوي على نيّتها التحوّل إلى قوة عظمى، على عكس ما بدأت الصين تنحو إليه منذ عام 2012، أي منذ بلوغ زعيمها الكاريزمي الحالي، شي جين بينغ، السلطة. بل من المتعارف عليه بين الباحثين في الشأن الآسيوي أن الهند تتلقى دعماً مباشراً من الولايات المتحدة، كي تعطّل نهوض الصين وتؤخره، فكيف يمكن لدولةٍ تتلقى دعماً من القوة العظمى الأولى في عالم اليوم، أن تناطح دولةً تعتمد على اقتصادها غير التابع، وسياستها المستقلة، فضلاً عن أن تتحول هي نفسها إلى قوة عظمى؟!
والأهم أنه بينما ينخر الفساد الاقتصاد والسياسة في الهند حتى النخاع، ويطرحها دولة عالمثالثية متأخرة اجتماعياً وتنموياً وعمرانياً، وهو أمر لا تخطئه عين الزائر للعاصمة الهندية التي تعاني مشكلات تنظيمية عميقة في التخطيط العمراني، وتنظيم حركة السير، والنظافة العامة، تحوّلت الصين فعلياً إلى معجزةٍ في الإدارة والسياسة والتنظيم والصناعة وتخطيط مدنها الكبيرة والصغيرة سواءً بسواء، وهو أمر لا تخطئه أيضاً عين زائر بكين وشنغهاي وغوانجو وشيان وشنغدو وتيانجين وهانجو وشنجن، وحتى مدن المقاطعات الأقل أهمية، مثل أوروموتشي وينتشوان.
وفي التفاصيل، دخلت الصين مرحلة جديدة منذ عام 2012، على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهي مسألة لا ينتبه لها محللون كثيرون لا يدركون عمق الفارق بين صين ما قبل شي وصين شي الذي عمد، منذ توليه السلطة، إلى محاصرة فرص الفساد وملاحقة المتورطين فيه، ومحاكمتهم مهما علت مرتبتهم في الدولة والحزب الحاكم، انطلاقاً من القائمين على إدارة شركة البترول، ما أفضى، بشكل ملموس، إلى صيانة موارد الدولة التي باتت اليوم أغنى دولة، بفائضها التجاري الذي يتجاوز تريليوني دولار.
كذلك، تعتمد الصين آليات تكفل تصعيد أصحاب الكفاءات والمواهب والتميّز إلى مفاصل الدولة ومؤسساتها، إذ تحصر عضوية حزبها الحاكم بالمتفوقين دراسياً ومجتمعياً، من دون تمييز قومي أو ديني أو ثقافي، بحيث تتساوى فرص جميع الصينيين، سواء كانوا من قومية هان التي تشكل نحو 90% من السكان، أو من القوميات الأخرى الصغيرة، بما فيها القوميات المسلمة العشر، في الانتماء إلى الحزب، ومن ثم المشاركة في قيادة مؤسسات الدولة، وحتى في الحصول على الوظائف الحكومية والارتقاء في سلّمها، إذ تكرّست في الصين ثقافة التعيين على أساس الامتحان بين المترشحين للوظيفة أياً كانت.
وعلى صعيد آخر، يحتل مكانة مهمة في تغيير شكل الصين، المعروف في العالم على مدار العقود الأربعة الأخيرة، ترفع الصين اليوم شعار "حان وقت الإبداع" عنواناً لنهجها في الصناعة التي عرفها العالم، قائمة على التقليد وإنتاج صناعات ضعيفة الجودة، فالصين اليوم تعيد النظر بمسألة جودة المنتجات التي تحمل العبارة التي تقول طرفة متداولة، إنها الأكثر استعمالاً في تاريخ البشرية، وهي "صُنع في الصين". وليس أدل على ذلك من صناعاتها الجديدة في السيارات والقطارات والطائرات، مقارنة على سبيل المثال بسياراتها السابقة سريعة التعطّل.
على الصعيد الخارجي الذي يستهدف قيادة الصين إلى مكانة دولية مرموقة جديدة، فقد طرحت بكين، منذ خمس سنوات، خطة "الطريق والحزام" التي تواصل الصين من خلالها بناء مناطق نفوذ متزايدة الاتساع، على أساس الاستثمارات الاقتصادية الضخمة من شرقي آسيا مروراً بوسطها وغربها حتى شرقي أوروبا، مترافقة مع بناء علاقاتٍ ثقافيةٍ متينةٍ، تعمل بجد لتغيير صورة الصين في العالم، عبر الإعلام والتعليم واللغة والفنون.
وليس سراً أو جديداً القول إن الهند تفتقد كل هذا التخطيط والتنفيذ الممنهج والمدروس، حتى وإن امتلكت طاقات ومواهب بشرية فردية استثنائية.

دلالات

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.