عن الإخلاص لفكرة ما

عن الإخلاص لفكرة ما

18 ابريل 2018
+ الخط -
شاهدت أخيرا فيلم رسوم متحركة يحمل معاني ورسائل مهمة كثيرة، كنت شاهدته قبل سنوات ولم أنتبه إليه جيدا إلا عندما شاهدته للمرة الثانية. وهو "Horton hears who!" (هورتون يسمع من!)، وهو من تأليف الأميركي دكتور سوس الذي كتب القصة للأطفال عام 1954، لإظهار معاني العزيمة والإصرار والتسامح، وكتبها بالأساس للتدليل على القدرة على تجاوز مشاعر العداء بين الولايات المتحدة واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. وتحولت القصة إلى فيلم رسوم متحركة بإنتاج ضخم عام 2008، تكلف وقتها حوالي 85 مليون دولار، وحقق ما يزيد على 300 مليون دولار.
وُلد سوس (ثيودور سوس جيزل) في 1904، ودرس في جامعة أكسفورد، وعاد إلى الولايات المتحدة عام 1927، وقرر العمل في مجال قصص الأطفال والقصص المصورة. ويحكي الفيلم عن الفيل الطيب، هورتون، المتسامح مع جميع الحيوانات، والخدوم إلى أقصى درجة. وفي أحد الأيام، يسمع صوتا صادرا من زهرة برسيم، ويظن أنه يُخيل له ذلك، ومع الوقت يتأكد من وجود أصوات تصدر من الزهرة، ومع استمرار المحادثة بينه وبين حاكم "هو who أو من"، يعلم أن هناك عالما كاملا من مخلوقات تعيش في مدينةٍ لها حاكم وقوانين وبرلمان ونظام حكم. سكان ذلك العالم لا يعلمون شيئا عما هو خارج ذرة الغبار التي يعيشون عليها، والتي توجد فوق زهرة صغيرة ملقاة فوق غابة مترامية الأطراف، كما أن هورتون لم يكن يتخيل أنه يمكن أن يكون هناك عالم كامل ومخلوقات أخرى فوق ذرة غبار فوق زهرةٍ صغيرةٍ في الغابة.
ومع الحوار اليومي بينه وبين حاكم مدينة "هو"، يتعرف هورتون على العادات والتقاليد 
والنظام الحاكم لذلك العالم الصغير، ويعلم أن هناك برلمانا منتخبا يقيّد سلطات الحاكم، وأن في المدينة طرقا ومباني ومدارس وجامعات وعلماء. كانت مباني بلدة "who هو" مصممة على تحمّل الزلازل والأعاصير المفاجئة، ولم يكن السكان والعلماء يعلمون أنهم مجرد كائنات متناهية الصغر تعيش على ذرة في زهرةٍ تحملها الرياح، وتضعها في أي مكان، ثم أصبح يحملها فيل يتنقل ويجري ويلهث. يذكّرني ذلك بما كانت تحكيه لي جدتي، عندما كنت صغيرا، عن ذلك الثور أو الملك الذي يحمل الكرة الأرضيّة على أحد قرنيه، وعندما ينقل الكرة الأرضيّة إلى القرن الآخر، يحدث زلزال مدمر.
ومع التصاعد الدرامي، يحاول هورتون إقناع باقي حيوانات الغابة بأن هناك عالما كاملا ومخلوقات متناهية الصغر تعيش في تلك الزهرة، لكن الجميع يسخرون منه، وتتهمه الوزيرة (الكونغر) بأنه ينشر أفكارا هدّامة، ويحاول إفساد عقول الصغار، ولذلك يجب معاقبته وعزله من أجل حماية الأطفال. وفي الوقت نفسه، يحدث ما يشبه ذلك لحاكم مدينة "هو who"، حيث لا يصدّقه أحد، عندما يشرح لهم أن تلك الزلازل المتكررة هي بسبب أن الفيل الذي يحملهم يحاول الهروب من حيواناتٍ تريد سحق الزهرة وتدمير عالمهم. ويصر الفيل هورتون على موقفة ويناضل، طوال الفيلم، من أجل إنقاذ الزهرة والكائنات التي تعيش عليها، ويتحمّل السخرية والإهانات والأذى من جميع الحيوانات، لكنه لم يستسلم، وظل يحاول إقناع باقي الحيوانات.. يهرب أحيانا ويضرب بخرطومه أحيانا أخرى، لأنه سمع، ولأنه مقتنع بفكرةٍ ما، ولا بد من أن يتحمل الأهوال من أجل إثباتها والدفاع عنها، والحال كذلك بالنسبة لحاكم المدينة على ذرة الغبار. يسخر الجميع منه، ويستغل البرلمان عدم تصديق الشعب قصة أنهم مجرّد شعب صغير يعيش في عالم أكبر منهم بكثير، فيبدأ رئيس البرلمان في منافسة الحاكم الذي أصبحت الأغلبية تعتقد أنه مجنون ومناطحته، لا يصدقه إلا زوجته وابنه الذي لا يتحدّث كثيرا، يؤمنان به ويساعدان في إيصال صوت شعب "هو who" إلى خارج الزهرة، ليسمعهما باقي سكان الغابة، ويتراجعون عن فكرة إذابة الزهرة في زيت مغلي.
على الرغم من بساطته، يحمل الفيلم رسائل ومعاني جميلة عديدة، فلولا إصراره ونضاله، ما كان الفيل هورتون استطاع إقناع الآخرين بالحقيقة التي اكتشفها. ولولا ذكاء الصبي الصامت المتمرد (ابن حاكم المدينة الصغيرة) واستخدامه لاختراعات مبتكرة من أجل إيصال صوت شعبه للخارج لكان الهلاك لهم جميعا. يذكّرني ذلك بمن يتحملون الإساءة والسخرية والتخوين في أوطانهم، لمجرد أنهم يتحدثون عن أخطار الديكتاتورية والحكم العسكري، أو يحاولون 
التحذير من الكوارث التي ستأتي من استمرار الفساد والحكم العشوائي، أو يحاولون إقناع الناس بأهمية الديمقراطية والحكم الرشيد، لكن الجميع ينعتونهم بالجنون أو بالخيانة، والجميع يحاربهم وقد يقتلونهم لمجرد أنهم يحاولون إنقاذ الآخرين، وكذلك كان مشهد الحاكم الذي ينظر إلى السماء، ليسمع كلام فيلٍ لا يراه، لكنه يصدق ما يقول، أشبه بنبي يستمع إلى إلهه الذي يقول له الحقيقة، ويعلمه الأسماء وحقيقة الوجود.
يلفت النظر أيضا أن الشعب الصغير في مدينة أو كوكب "هو who" يعتقدون أن العالم ينتهي عندهم. لم يكن عندهم علم بأن كل مدينتهم ومبادئهم وحضارتهم وتاريخهم هي فقط مجرد جزء ضئيل من ذرّة غبار على زهرة تطير في الهواء، وسط غابة ضخمة على كوكبٍ يعتبر هو الآخر مثل ذرة الغبار التي تطير في الجو بالنسبة لباقي العالم وباقي المجرّات. لفت نظري كذلك أن الإنسان ينشغل أحيانا بقضايا خاصة، قد يعتبرها مصيرية أو تمثل نهاية العالم، لكنها في واقع الأمر لا تمثل شيئا بالنسبة لتاريخ البشرية، ولا تمثل شيئا لذلك الكون الذي ليس له نهاية.
صحيح أن الخير ينتصر في النهاية في أفلام الرسوم المتحركة فقط، ولكن فعلا لا يسقط حق وراءه مطالبٌ، والإصرار والإيمان هما مفتاح النجاح، مهما طال الوقت، ومهما زاد الظلم والجهل، وستظهر الحقيقة يوما ما، ولو بعد مئات أو آلاف السنين. وأحيانا عندما أنظر إلى كل هذا الظلم الواقع علينا، وعلى حالنا الذي أصبح يرثى له، أقول لنفسي ربما سيجيء يوم، وسيبدأ القوم في دراسة ما حدث من جديد، ويعيدون للمظلوم حقه، ولو بعد مئات السنين.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017