ما مصير عيد الجلاء السوري؟

ما مصير عيد الجلاء السوري؟

17 ابريل 2018
+ الخط -
حدث في مثل هذا اليوم، في 17 أبريل/ نيسان 1946، أي قبل 72 عامًا، تم جلاء آخر جندي فرنسي عن سورية التي كانت تحت الانتداب الفرنسي. وصار عيدًا وطنيًا تحتفل به الدولة رسميًا، وتمنح الشعب عطلة رسمية فيه. فكم من الألم تحمل هذه المناسبة معها كل عام منذ سنوات سبع، وقد صارت أرض سورية تحتلها جيوش وأطراف عديدة، يدّعي كل منها حرصه على سورية، وعلى وحدة أراضيها وشعبها، بينما تنتهك أراضيها، ويباد شعبها بكل أشكال الأسلحة وطرق الموت.
منذ سبع سنين ونيف، كان لدى الشعب السوري حلم بالحرية وطموح بالاستقلال، استقلال الإرادة التي لا تنفع الحرية من دونها، لم يكن يكفي جلاء المستعمر، حتى تنهض سورية من تحت نير التبعية، وتمشي بخطى مستقلة وثابتة في طريق مستقبلها، كان يلزمها وعي بذاتها وفهم لمشكلاتها، والتفات إلى خصوصيتها، وعلاقتها بالعالم وبمحيطها العربي، وغير العربي. وكان يلزمها، قبل كل شيء، أنظمة سياسية وطنية مخلصة لشعبها تحترمه وتستنهض ما لديه من خامات وطاقات بشرية، ليكون فاعلاً في تنظيم حياته، وتقرير مصيره ومستقبله. فما الذي حصل؟ وأي فاجعةٍ ألمت بسورية، وعرّت الواقع ليظهر كمّ هائل من المشكلات الراسخة الضاربة جذورها في عمق المجتمع، تعمل على تفتيت بنيانه على مدى العقود الماضية في غفلةٍ من كل فرد في الشعب؟

تطرح كل التحليلات التي تطرح جزءًا من الصحة، وإلقاء المسؤولية بحجمها الأكبر على أنظمة القمع والاستبداد، بما يحمل من حق وحقيقة، لا يكفي لأن نواجه الواقع المتأزم حدّ الخطورة العظمى. بل لا بد من مواجهة الأسباب التي جعلت من المجتمع السوري مجتمعاتٍ عديدة، تبين أنها لم تكن متجانسةً، وإنما واقعة تحت سطوة نظام شمولي، جعلها متعايشةً بالقوة فيما بينها، وألهاها عن تطوير ذاتها بالمشكلات الحياتية والقلق الدائم من المصير الذي لا أحد يضمنه ويكفله غيره.
بعد جلاء آخر جندي منذ أكثر من سبعين عامًا، تغيرت أمور كثيرة في العالم، ومثلها في المنطقة العربية، وما زال العالم يعيد ترتيب أوراقه وأولوياته، بينما صارت سورية الميدان الأكبر لصراعاته، فهل سورية هي مفتاح الزمن القادم بالنسبة لهذا العالم المتصارع؟
ما يحصل اليوم على أرض سورية هو حرب عالمية "رابعة"، إذا اعتبرنا الحرب الثالثة كانت تلك الباردة التي رهنت العالم لمزاج حوتين يتصارعان تحت الماء، بينما لا يرى العالم أكثر من أمواج على السطح، تتسع دوائرها وتضيق. حرب عالمية تكون التسويات فيها على الأرض السورية، حتى لو قُتل نصف شعبها، وشُرّد النصف الآخر، حتى لو لم يبقَ فيها غير نظام مصر على التمسك بالمصير إلى آخر نقطة دم سوري، ومعارضة مصرّة أكثر على انتزاع هذه القبضة منه، وتبوؤ سدة الحكم، ولو بآخر نقطة دم سوري أيضا.
يقول محللون: بعد القفزة العسكرية الروسية في سورية، طرح قادة البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) أسئلة نامت عشرين عامًا: ما هي قدرة الروس فعلاً على حماية قفزتهم تلك؟ أين بالضبط قد يحدث الصراع مع روسيا؟ في سورية؟ أم في أوكرانيا؟ كيف ستبدو الحرب مع روسيا اليوم؟
هذه الأسئلة، وغيرها كثير، لا يمكن تجاهلها والبناء عليها، خصوصًا إذا ربطناها بما يحصل اليوم، بعد الضربة الأميركية البريطانية الفرنسية أخيرا على سورية، على خلفية استعمال السلاح الكيميائي في دوما، التي لا يمكن تصنيفها رسالةً إلى النظام السوري، أو محاولة لقلبه وإحلال نظامٍ بديل محله، ولا على أنها حرص من تلك الدول على حياة السوريين وأرواحهم التي تزهق بعشرات ومئات كل يوم، بأسلحة أخرى، وبحصاد أكبر، من دون أن يكون هناك حل سياسي يومض في الأفق، على الرغم من تكرار ضرورة الحل السياسي على ألسنة قادتها.
سورية اليوم واقعة تحت احتلالات، وهي هدف لمشاريع إقليمية ودولية. لقد رأت واشنطن في الصعود الروسي نصف المشكلة فقط، أما النصف الآخر فرأته في إيران، الدولة المعادية التي ترى في أميركا الشيطان الأكبر. وبحسب قولٍ منسوب للكاتب الإسرائيلي، زائيف إسرائيل، لصحيفة يديعوت أحرنوت: باستثناء الضربات الجوية للتحالف، فإن سورية متروكة لرحمة الروس والإيرانيين، وهؤلاء بالفعل يجيدون استغلال الثقوب والنفاذ منها.
الصراع أكبر من قضايا شعب يريد الحياة بالنسبة للقوى العاتية وأدواتها، شعب ثار لأجل كرامته ولقمة عيشه ووجوده، فانتزع سقفه الفكري، وتُرك بلا قيادة تمسك بيده. انهال عليه الرصاص، فتبدّدت مطالبه المحقة، الحرية، الكرامة، العدالة الاجتماعية، حرية الكلمة والرأي، وغيرها لتحل محلها شعاراتٌ إقصائيةٌ ودينيةٌ وانفصاليةٌ، ويلعلع الرصاص مكان هدير الحناجر، وتتشكل الفصائل المسلحة والجيوش المتعددة، بدلاً من جيشٍ سوري موحد، وليدخل الشعب السوري في متاهات الموت والغربة والتغريب، ويصبح تحت رحمة التضليل الإعلامي بين إعلامٍ موالٍ وإعلامٍ معارض، ولكل منه حلفاؤه وجهات داعمة لها أجنداتها.
ليست الأرض هي المحتلة فقط، بل السماء السورية أيضًا، السماء التي حصدت أبرياء ومدنيين كثيرين ببراميل الموت، والتي حلّق في سمائها الطيران الروسي وطيران التحالف، وكلهم بحجة محاربة الإرهاب، ولم يغفل الطيران الإسرائيلي استباحة السماء السورية في طلعاتٍ خاطفةٍ عديدة، يدمر أهدافًا تهمه، بينما إسرائيل تراقب الوضع وتعمل بصمت، لأجل مصالحها. لم تعد سورية للسوريين، ولم يعد القرار قرارهم، سورية محتلة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فكم من الجيوش النظامية تقاتل على أرضها؟ روسي، إيراني وحلفاؤه، تركي، أميركي والتحالف، وكم من الكتائب والفصائل المسلحة التابعة لدول أخرى تمولها وتدعمها؟ وليست الضربة الأميركية الأخيرة، أو سابقاتها سوى مناوشة لإيران التي تشكل الخطر الجيوستراتيجي البعيد
المدى على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، من جهة. وإرباك للروس الذين خطوا خطواتٍ إلى الأمام، كي لا يتراجعوا خطوةً إلى الوراء. من الواضح بعد كل هذا الدمار والخراب والسنين السبع من الجحيم السوري أن تقاطب القوى في الصراع يتعدى، بالتأكيد، الأسباب الداخلية، وليست قضية الشعب بما يريد، ولأجل ماذا انتفض وثار على أنظمته القمعية هي المهمة، بل هي حمّالة النوايا غير البريئة. ولو كانت بريئةً لكان الضمير العالمي قال قولته، ولكان من غير العسير الوصول إلى حل سياسي في سورية، لكن الوقت لم يحن بعد، فهناك تحت الطاولة ما هو أكثر مما فوقها، ولن يستخدم اللاعبون العتاة كل أوراقهم دفعة واحدة.
لقد أورثت الأنظمة العربية دولاً فاشلة، ومنها سورية، فهل أفشلُ من دولةٍ يظهر هذا الكم الهائل من المشكلات المستعصية المدمرة لبنيان المجتمع لدى شعبها بعد خمسين عامًا من الحكم الشامل؟ بل أن ينقسم الشعب بين مهللٍ لقتل بعضه، ومستنكر لقتل بعض آخر، أو مهلل للضربات الروسية ومستنكر لها، أو للضربات الأميركية، مثلما كان في موقفه من التدخل الإيراني الفج، ومن الاحتلال التركي السافر لمناطق من سورية؟
أي جلاءٍ سيحتفل به الشعب السوري؟ بل يجب أن يُصاغ السؤال بطريقة أخرى، كيف سيكون شكل الخريطة السورية المستقبلية؟ وأي الرايات سترفرف هنا أو هناك؟ في سماء سورية واحدة أم في سموات متعددة؟ وما مصير السابع عشر من نيسان، عيد الجلاء، الذي هو في الأساس عيد الربيع الضارب في القدم لدى الشعوب التي استوطنت سورية، عندما كانت تحتفل بالحياة، وليس بالموت؟