تونس والإصلاحات المعطّلة

تونس والإصلاحات المعطّلة

15 ابريل 2018
+ الخط -
منذ سقوط نظام بن علي في تونس قبل سبع سنوات، ظلت الحكومات المتعاقبة تجتهد في تشخيص الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي كاد أن يغدو كارثيا في الأشهر الأخيرة. وتحول هذا التشخيص إلى حديث مقاهٍ من فرط تداوله، وأصبح المواطن العادي خبيرا في تقديم هذا التدقيق للوضع الحالي، بل إن عديدا من لقطات المسرحيات الساخرة وأغاني الراب وغيرها تعيد، في لهجةٍ محكيةٍ، يلفها تندرٌ قاسٍ، ما غدا معرفة مشتركة: مديونية مرتفعة، أسعار من نار، بطالة حادّة، تدني الإنتاج.. إلخ. من دون إضافة عشرات من علات تونس التي تحولت أمراضا مزمنة، على غرار تدهور قيمة العمل وارتفاع الجريمة الاجتماعية ومنسوب العنف، وتظل القائمة مفتوحة على سلسلةٍ من عللٍ نخرت النسيج الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، ما أصبح يهدّد السلم الأهلي.
لا يبدو أن هناك اختلافا على تشخيص الوضع، حتى من أحزاب الحكم والمعارضة، بما فيها الأكثر راديكاليةً، ذلك أن الجبهة الشعبية مثلا لا تختلف في التشخيص عن حركة النهضة أشد خصومها، وتقدم المنظمات الدولية أيضا التشخيص نفسه تقريبا. ولعل الدراسة التي قدمتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أخيرا لا تقدم جديدا، حين ترى الاقتصاد التونسي معتلا، ويحتاج مراجعات هيكلية.
ومع ذلك، يختلف الفرقاء اختلافا جذريا في تحديد المسؤوليات، واقتراح البدائل الممكنة، وهو 
اختلاف ناجم تحديدا عن التجاذبات السياسية والاستقطاب الأيديولوجي الحاد الذي تعرفه البلاد، إذ إن تحميل المسؤولية لطرف بعينه عادة ما ينخرط في استراتيجيات تأثيم الخصم وإلصاق الإخفاق به حصريا وتشويهه، كما استغل أنصار النظام السباق هذه الإخفاقات وإسنادها إلى حكومات ما بعد الثورة، في صناعة الحنين إلى هذا النظام، وتصويره جنةً خسرناها.
في اليوم الذي عقدت فيه رئاسة الحكومة الندوة الوطنية عن الإصلاحات الكبرى الأسبوع الماضي، كانت على بعد مئات الأمتار تقريبا تُعقد جلسة الخبراء لتحيين وثيقة قرطاج، وهي الوثيقة التي انبثقت منها حكومة يوسف الشاهد سنة 2016، ويرى بعضهم أن الأمر ليس مصادفةً، بل يشي بخلاف حاد بين قصر قرطاج (رئاسة الجمهورية) والقصبة (رئاسة الحكومة). وبقطع النظر عن مدى دقة هذه الفرضية التي سارعت إلى نفيها الناطقة الرسمية باسم رئاسة الجمهورية، فإن أطرافا فاعلة عديدة في وثيقة قرطاج رأت فيها تشويشا على عمل اللجنة التي ستحدد مصير الحكومة ذاتها، بما فيها الشاهد نفسه، بل قاطعتها، وأهم من بادر إلى ذلك المنظمة النقابية، الاتحاد العام التونسي للشغل، والجبهة الشعبية (ائتلاف حزبي سياسي من فصائل اليسار والقوميين).
الإصلاحات السبعة التي أعلنتها تلك الندوة، وهي ذات الأولوية المطلقة للحكومة: المنظومة الجبائية، منظومة تمويل الاقتصاد، منظومة الدعم، المؤسسات والمنشآت العمومية، الصناديق الاجتماعية وإرساء أرضية الأمان الاجتماعي، تحديث الإدارة التونسية، إلى جانب إصلاحات أخرى. ولا أحد اعترض على تحديد هذه الإصلاحات، ولكن من الذي يعرقل الشروع فيها؟ بقطع النظر عن الاختلافات الجزئية في ترتيب الأولويات، من المفيد تحديد العراقيل التي أعاقت انطلاق هذه الإصلاحات:
- التردّد الذي رافق سلوك جل الحكومات، وعدم التحلي بالجرأة الدنيا لمباشرة هذه الإصلاحات، أو كما تقول الأدبيات السياسية "الأيدي المرتعشة" التي حكمت تونس بعد الثورة. وأعتقد أنه إذا كان هناك من مبرر لهذا السلوك قبل انتخابات 2014، فإن هذه المبرّرات، حتى ولو سلمنا بحجتها، لم تعد قائمة، فالحكومات التي جاءت بعد تلك الانتخابات ملآنة شرعية منبثقة عن انتخابات أفرزتها صناديق الاقتراع. لذلك، الفرضية الأهم في تواصل التردد وغياب الجرأة والشجاعة في مباشرة تلك الإصلاحات والمضي بها، هو الحسابات السياسية لدى رؤساء الحكومات، وحتى لبعض وزرائهم، من أجل الإطالة في مأمول عمرهم السياسي، بل إن هناك من لا يخفي طموحات سياسية متعلقة بانتخابات سنة 2019. ولذلك يتجنب هؤلاء إثارة قضايا خلافية، ويفضل بعضهم استمرار هذه الوضعية، باعتبارها الأسلم من جهة استمرار عهدتهم.
- السبب الثاني في تأجيل تلك الإصلاحات ضعف الدولة أمام مراكز قوى ولوبيات مصالح
 غير متجانسة: رجال أعمال، منظمات مهنية، نقابات، حرّاس الدولة العميقة... فلقد رأينا كيف أسقط مجلس النواب مثلا تحت تأثير تلك المنظمات، من خلال ممثلين لهم في البرلمان، جملة من القوانين، تتعلق بمسائل الضرائب وغيرها، نظرا لأنها تتعارض مع مصالحهم المالية. فحتى لو افترضنا صدق نية الحكومات، فإن قوة اللوبيات ومراكز النفوذ تلك، وقفت دون تلك الإصلاحات. ولا يمكن أن نستثني الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو المنظمة القانونية القوية التي رفعت الفيتو مرات، واعتبرت أن بعض الإصلاحات تجتاز خطوطا حمراء، وعبر عن ذلك بلغة أحيانا متشنجة وقطعية. إنه يناهض مثلا خصخصة تلك المؤسسات، حتى لو كانت مفلسة، ويدفع بتشغيلية مكثفة، حتى ولو كانت على حساب التوازنات المالية للمؤسسات.. إلخ. ويرفض أيضا تأجيل سن التقاعد خطوة ضرورية لإنقاذ الصناديق الاجتماعية المفلسة.
أما آخر من يعطل تلك الإصلاحات، فهي منظومة القيم التي تشكلت بعد الثورة، إنها تصرفات وسلوكات جل الفئات بما فيها النخب التي تستهتر بالشأن العام، وتبخس الجهد والعمل والنجاح وتهدر المشترك.
ما لم يتم تجاوز هذه العراقيل، وإيجاد أوسع توافق وطني حول ذلك، واستعادة الدولة قوتها المستندة إلى القانون والشرعية، فإن تلك الإصلاحات ستظل عالقة إلى أجل غير مسمى، ربما ينهار خلالها السقف على الجميع.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.