عالم ما بعد الغوطة

عالم ما بعد الغوطة

14 ابريل 2018
+ الخط -
يعرف متابعو التاريخ العسكري جيداً تعبير "الضرر الجانبي" Collateral damage، الذي استُخدم على نطاق إعلامي واسع للمرة الأولى عام 1991 خلال حرب الخليج الثانية، لوصف الضحايا المدنيين في أثناء القتال، ولاحقاً تكرر استخدامه بكثافة في غزو العراق 2003. يُشير التعبير إلى دلالة قانونية، تتعلق بأنه بموجب القانون الإنساني الدولي ونظام روما الأساسي لا يشكل موت المدنيين، في حد ذاته، جريمة حربٍ، ما دام ذلك قد تم في إطار هجمات متناسبة ضد أهداف عسكرية مشروعة (بموجب مبدأي التمييز والتناسب). كثيراً ما تعرّض تعبير الضرر الجانبي لانتقادات، كونه لا يعبأ بحياة البشر، أما اليوم فإن مدنيي سورية لا يرقون إلى ذلك، هم غير موجودين أصلاً إلا لو احتاج أحد الأطراف لهم ذريعة لغرض سياسي ما.
دربت المأساة السورية العالم على رفع سقف احتمال البشاعة، على تحويل الضحايا إلى أرقام مصمتة. أتجول في موقع المرصد السوري لحقوق الإنسان، وتهاجمني الأرقام: 350 ألف قتيل على الأقل خلال سبعة أعوام. الفائز بالمركز الأول بمسابقة القاتل الأكبر هو النظام السوري بأكثر من 68 ألف مدني. القصف الروسي قتل 6891 شهيداً مدنياً منهم 1702 طفل، وفصائل المعارضة قتلت 7579 مدنياً، بينما قتل تنظيم الدولة الإسلامية 4905 مدنيين. أرقام أرقام. القصف التركي قتل 754 مدنياً منهم 167 طفلاً، ورصاص حرس الحدود التركي ضد الهاربين من الجحيم قتل 352 مدنياً منهم 66 طفلاً. أرقام أرقام. ولا تشمل الإحصاءات نحو 45000 ألف شهيد تحت التعذيب في المعتقلات لعدم إمكانية التوثيق الكامل لهم، كما لا تشمل نحو 100 ألف آخرين. المزيد من الأرقام.
من يعبأ وسط كل جبال الجثث السورية بأنباء هامشية، مثل سجن صحافي في مصر، أو مستقبل رئاسة بوتفليقة في الجزائر، أو مسيرات العودة في فلسطين؟ وكيف يجرؤ شعبٌ على الحلم، بينما يرى أن كل ما يحدث في سورية يتم تحت شعار "هذي منشان الحرية".
دائماً ما كان يُقال "الغوطة غير"، وهي المحمية بأقوى التشكيلات العسكرية، وأيضاً ذات العلاقات الخارجية الأوسع، وأيضاً هي التي كان يُفترض أنها محميةٌ بتفاهماتٍ إقليمية طائفية لمنع تفريغ محيط العاصمة من السنة. لكن الرسالة هي أنه لا أمل. لم ينفع الغوطة ريادتها بالحراك السلمي الشعبي في بداية الثورة، كما لم ينفع السلاح والخنادق. لم ينفع لا الخطاب الديموقراطي، ولا التجييش الطائفي. لم ينفعها دعم الدول الصديقة، كما لم تنفعها محاولة مهادنة الدول العدوة. (عرض جيش الإسلام على الجانب الروسي عروضاً تصل إلى البقاء في دوما شرطة منزوعة السلاح الثقيل مع تسليم كل المؤسسات المدنية للنظام). ربما ما كان سينفع فعلاً هو أنظمة دفاع جوي فاعلة، لكن هذا تحديداً هو ما توافق الشرق والغرب والصديق والعدو على حجبه عن السوريين.
تدريجياً، توافق الجميع على حق الأسد في قتل شعبه كما شاء، لكن الخلاف حول الوسيلة، فلتستخدم البراميل كما شئت، ولتنكر وجودها أصلاً كما شئت، لكن، يا سيد أسد، لا تستخدم الكيميائي، كي لا تجرح المشاعر الإقليمية، خصوصاً الإسرائيلية منها. المفارقة هنا أنه يصمم على (الممانعة): سأقتل شعبي بالوسيلة التي أشاء. ... لكن مخطئ من يظن أن قصة بهذا الحجم ستنتهي هنا.
في فيلم أذاعته قناة الجزيرة عن حركة "أحرار الشام"، يظهر أن أغلب المؤسسين كانوا من عائلاتٍ تعرضت للاضطهاد بعد أحداث حماة في الثمانينيات، أو سُجنوا في صيدنايا. مرت سنوات طويلة قبل أن تندلع النار من تحت الرماد. ومن رماد هزيمة الحرب العالمية الأولى ظهر إعصار النازية المجنون.
حين نشاهد قوافل الحافلات التي تحمل نحو 189 ألف مُهجر من الغوطة، حين نشاهد كل طفل قتيل أو مشرد أو مُهجر، علينا أن نعلم أننا نشاهد إعلاناً لهيمنة قواعد عصر الأسدية والبوتينية، ومعه نشاهد إعلاناً بمستقبلٍ مفتوحٍ على كل الاحتمالات.