عندما تلاحق تُهَم الفساد الرؤساء

عندما تلاحق تُهَم الفساد الرؤساء

13 ابريل 2018

دا سيلفا يخاطب مؤيدين له: سألتزم بأمر اعتقالهم (7/4/2018/Getty)

+ الخط -
يتدرّج الفساد في دول العالم الثالث مع تصاعد التسلسل الهرمي البيروقراطي، أو ارتفاع السلّم السياسي، حتى الوصول إلى مستوىً عالٍ من قمة السلطة السياسية، أي الرؤساء الذين يمتلكون، في الوقت عينه، فرصاً متجددة دوماً للوصول إلى أعلى مستويات الثراء. هذا النمط من الفساد الذي يزداد ثقلاً عند قمة الهرم في السلطة السياسية يعني التدنّي في مستوى المؤسساتية السياسية، ذلك أن المؤسساتية السياسية العليا في المجتمع، والتي يجب أن تكون الأقل تعرّضاً لهذه المؤثرات الخارجية، هي في الواقع الأكثر تعرّضاً لمثل هذه المؤثرات. هذا النمط من الفساد لا يكون بالضرورة متعارضاً مع الاستقرار السياسي، ما دامت سبل التحريك إلى الأعلى عبر الآلية السياسية أو البيروقراطية تظل مفتوحة.
وفي ظل انتشار "ثقافة الفساد" داخل دول العالم الثالث، نُسبت إلى رؤساء دول عديدين اتهاماتٌ بالفساد المالي والسياسي، لعل أبرزها في السنوات القليلة الماضية قضية المحاكمة التي تعرّضت لها الرئيسة السابقة لكوريا الجنوبية، بارك جيون، بالسجن 24 عاماً بسبب الفساد، إذ قال القاضي إنّه "أصدر حكمًا قاسيًا لمنع تكرار عمل مؤسفٍ كهذا". فهي المرة الأولى التي تعزل فيها رئيسة منتخبة ديمقراطيًا بتهمة استغلال النفوذ والفساد، وتدفع إلى التخلي عن القصر الرئاسي، وعن سلطاتها مكبلة اليدين، وقد ارتدت ملابس السجن، حيث ستقبع ربع قرن إذا لم يصدر ما يخفف عنها ذلك.. وبعد محاكمة استمرت عشرة أشهر، قال القضاء كلمته في قضية تابع العالم أحكامها.
غير أنّ القضية الأبرز التي يتابعها العالم الآن، إذعان الرئيس اليساري السابق للبرازيل، لولا دا سيلفا، لقرار المحكمة، فسلّم نفسه طوعًا للشرطة، ليبدأ تنفيذ حكم بسجنه 12 عاماً وشهرًا،
فقد أعلن أمام آلاف من أنصاره اليساريين، حاولوا منعه من مغادرة مقرّ نقابة عمال المعادن في ساو برناردو دو كامبو، إحدى ضواحي مدينة ساو باولو، إنّه قرّر تسليم نفسه للشرطة، وإنّه "سيمتثل لمذكرة التوقيف"، واستدرك: "لكني مواطن مستاء، ولا أقبل أن يُقال إنّني لص. أريد مواجهتهم"، في إشارة إلى متهميه بالفساد، واتهم القاضي سيرجيو مورو بـ "الكذب"، مؤكداً أنه ضحية تلاعبٍ من "النخب"، لمنعه من الترشح لولاية رئاسية ثالثة، معتبراً أن "همّهم هو أن تكون لديهم صورة لي سجيناً". ووصل لولا الذي كان المرشح الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات، بمروحية عسكرية حطّت فوق سطح مقرّ الشرطة الفيدرالية في كوريتيبا التي تُعتبر "عاصمة مكافحة الفساد" في البرازيل.
وكانت فضائح الفساد قد هزّت صورة الرئيس السابق لولا بعد عملية التجديد لحضوره في سدة الرئاسة بعد الانتخابات التي أجريت في أكتوبر/ تشرين الأول 2006، حين تغلب على منافسه الاشتراكي الديموقراطي، جيرالدو ألكمين. وكان لولا يمثل في البرازيل، كما في الخارج، أمل الطريق الجديد، بين اليسار الثوري الفاقد حظوته والليبرالية المظفرة، فقد تعرّضت حكومة لولا دا سيلفا حين كان رئيسًا لسلسلة من الفضائح، تتصل بالفساد المتغلغل في المحيط القريب من الرئيس البرازيلي، لا سيما في رئاسة حزب العمال، ووزير الاقتصاد السابق أنطونيو بالوسي. وبعيونٍ دامعة، وقف الرئيس لولا أمام شاشات التلفزيون في البرازيل، في مسعىً إلى إقناع ناخبيه، أنه وقع ضحية خيانة رفاقه. وقال: "لم أتغير، وأود أن أطلب منكم عدم فقدان الأمل، أعرف أنكم غاضبون، وأقسم بأنني مستاء أكثر منكم".
وعندما وصل الرئيس دا سيلفا إلى السلطة في البرازيل في يناير/ كانون الثاني 2003، كان أول رئيس للبرازيل من الطبقة العاملة، يطبّق برامج اجتماعية واسعة، وفهم فورًا أنّه يرتكب خطأ كبيرًا إِنْ هاجم قطاع الصناعات الغذائية القوي، حتى باسم العدالة الاجتماعية، وتوزيع الأراضي على الفلاحين الفقراء، الشعار المركزي لحزب العمال، رفيق درب حركة العمال بلا أرض، الذي أوصل لولا دا سيلفا إلى قمة السلطة.
وكان دا سيلفا قد أعلن أن "على السوق أن تفهم أن البرازيليين يحتاجون أن يأكلوا ثلاث مرات يومياً، وأن الكثير من الناس هم في حالة جوع". وكان يراهن في مشروعه على التحالف مع
الرأسمال المنتج، والرأسمال الضخم ضمناً، في وجه الرأسمال المضارب، لاعباً ورقة خفض معدلات الفائدة لإعادة إطلاق الاقتصاد. ومع توزيع أفضل للدخل الوطني، ومع تنمية السوق الداخلية والإصلاح الزراعي، أعطى الأولوية للسياسات الاجتماعية، كما لإعادة بناء الدولة، وتوسيع سوق الجنوب المشتركة (مركوسور) وتطويرها.
ولم تقتصر تهم الفساد على الرئيس البرازيلي السابق، لولا دا سيلفا، بل شملت أيضًا اليسار الذي وصل إلى السلطة في أميركا اللاتينية منذ أكثر من عقد، على ظهر جواد أبيض، مقتنعاً بتفوّقه الأخلاقي على النخب اليمينية الليبرالية. وما عدا في تشيلي وأوروغواي، تخسر حكومات يسار الوسط أو اليسار معركة الأخلاقيات. ففي بوليفيا، شكّل الفساد على رأس المؤسسة العامة 2009 وصمة عار في مسألة تأميم المحروقات. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2009، تخلّى القضاء الأرجنتيني عن متابعة التحقيق في الشكوك حول الإثراء غير المشروع التي تحيط بالرئيسة البيرونية كريستينا كيرشنر وزوجها الذي سبقها في رئاسة الدولة، نيستور كيرشنر (2003 ـ 2007). وترد الأرجنتين في مؤشر الفساد الذي تضعه منظمة الشفافية الدولية بين الدول المنهارة أو البلدان التي هي في حالة حرب مثل الصومال أو أفغانستان أو السودان أو العراق. كما تمنح المنظمة غير الحكومية تصنيفاً أسوأ لبلدان عديدة في أميركا اللاتينية، هاييتي وفنزويلا وبارغواي وإكوادور ونيكارغوا وهندوراس وبوليفيا، فوفقاً لتصنيف منظمة الشفافية الدولية، تقع أوروغواي وتشيلي فقط في مصاف فرنسا وبلدان أوروبية أخرى أكثر فضيلة.
وفي عام 1998عندما كان الضابط هوغو تشافيز يسعى إلى الفوز برئاسة فنزويلا أول مرّة،
فعل ذلك باسم محاربة الفساد. ومنذ ذلك الوقت، تحرّر من كل الضوابط، في وقتٍ تضاعف فيه سعر برميل النفط الخام وموارد الدولة عشرين مرة. إذا كانت فنزويلا ترزح تحت وطأة الفساد منذ القدم، فالمبالغ المختلسة كانت بالملايين، أما الآن فتصل إلى المليارات. تُنفَق الأموال العامة بصورة استنسابية وغير شفافة. ويسير استعمالها الحزبي جنباً إلى جنب مع الإثراء غير المشروع، مع إفلات تام من العقاب، "يغطي" التعسّف السياسي إلى حد ما الاختلاسات الفردية.
ففي ظل انتشار المنظمات غير الحكومة لمكافحة الفساد على صعيد كوني، وما رافق محاكمة الرئيسة السابقة لكوريا الجنوبية، بارك جيون، والآن الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا، تشير كل هذه التطورات بأنّ العالم، وأن الشعوب والمجتمع المدني يمكن أن يكون لهما دور. ويمكن أن يتحكّما في سلطة القرار عندما يتعلق الأمر بالفصل بين دولة القانون أو اللّاقانون، فليس هناك رئيس قادر أن يتمتع بالحصانة من العقاب، فمن كرسي الرئاسة إلى السجن سيكون عنوانًا ملازمًا لرؤساء كثيرين سينتقلون من أعلى هرم السلطة إلى القاع والتهمة المشتركة الفساد واستغلال النفوذ، فقائمة الفضائح التي تلاحق الرؤساء السابقين ليست مرشحة للتوقف، إذ إنّ مصير الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، والرئيس الجنوب إفريقي المعزول جاكوب زوما، لم يعد مجهولاً في ضوء التحقيقات الجارية إزاءهما.
E8457B4F-E384-4D2B-911B-58C7FA731472
توفيق المديني

كاتب وباحث تونسي، أصدر 21 كتاباً في السياسة والفكر والثقافة