مبدعون بغيرهم

مبدعون بغيرهم

12 ابريل 2018
+ الخط -
أتذكر يوما عرض فيه أحد الأصدقاء لوحاته، وكانت جميلة فعلا. وبينما خرج لقضاء بعض أغراضه، كان صديقه الذي لا علاقة له بالإبداع يتحدث إلى الزائرين، ناسبا الأعمال الفنية إليه، متحدثا عن الظروف التي أحاطت به وهو ينجزها، والوسائل والخامات التي استعملها والوقت الذي استغرقه وهو ينجزها.. كان يتحدث واثقا من نفسه على أنّه الفاعل الحقيقي الذي يستحق المدح والثناء.
هذا حال مبدعين، يقتطعون من إبداعات غيرهم من دون أن يكلفهم ذلك ورقا أو حبرا أو أفكارا وصياغة. يثير الأمر زوبعة من غبار حتى لا يُرون وهم يقترفون ما يقترفون بلا حياء ولا احترام، إذ يقدمون أنفسهم مبدعين رائعين والإبداع لا يعترف بهم ولا يؤمن بما يقولون وما يفعلون.
وعلى الرغم من هذا كله يشعرون في قرارة أنفسهم بأنهم كاذبون وانتهازيون ومقرصنون ما ليس لهم، فلا تصوّر ينطلقون منه، ولا إلهام يأتيهم، وليسوا ممن يأتيهم.
ينتظرون انتهاء المبدعين من أعمالهم، يبسطون شباكهم كي يصطادوا من هنا وهناك، كي يموّهوا على الناس بإبداعية هي ترقيع لما اصطادوه وما اقتنصوه من بستان إبداعات غيرهم، فيحمدون ويشكرون، وهناك من فاز في مسابقات، واعتلى بعضهم منصة النجاح.
هنا نكون أمام مبدعين اثنين، مبدع تشرّب بالإبداع من منابعه الصافية العذبة، تدرب وقلد في البداية، ثم سرعان ما صار مبدعا يكتفي بنفسه في نسج إبداعاته مستعذبا ما يقوم به، مدمنا على الإبداع جاعلا إياه كالخبز والماء لا يستطيع أن يعيش خارجه، كما لا تستطيع الأسماك أن تعيش خارج الماء. يشعر في نفسه أنه خلق للإبداع، وخلق الإبداع ليصير واحة من واحات حياته، منها يرتوي، ومنها يحصل على توازنه، معبّرا عن ذاته، وعن محيطه، وما يحمله من مثيرات متنوعة. وبذلك يصير كالشجرة المثمرة إثمارا طبيعيا خاضعا للفصول الأربعة، وتأتي ثماره طيبة نافعة، جميلة شكلا ومضمونا، بعيدا عن التصنّع المفضي إلى العثور على النقص والتدليس فيها فيما بعد.
أما المبدع الآخر، فهو مبدع بغيره، مبدع تابع بدل أن يكون قائدا، متسول بدل أن يكون محسنا، فقير يتظاهر بالغنى وما هو بغني، مبدع في المناسبات فقط، تنتهي صلاحيته بانتهاء هذه المناسبة أو تلك. فهل سيسعد بإبداعه؟ هل سيستمر في إبداعه؟ هل سيتحول من تابع للآخرين إلى مبدع بنفسه؟ أسئلة يمكن أن يجيب عنها نقاد جرّبوا الإبداع قبل أن يصيروا نقادا.
ولا بد من الإشارة إلى أن التقليد في بداية مشوار الإبداع يفرض نفسه فعلا لفترة معينة. كما أنّ الاستفادة من إبداعات الآخرين لن تكون مذمومةً، إذا اتخذها المبدع سبيلا للإتيان بالجديد المخالف الحامل لبصمته الخاصة.
ومن هنا نفرز بين المبدع الذي يبذل جهدا، ويصبر ويُجْهد نفسه كي يرْقى إلى مبتغاه، وبين مبدع نام حتى استيقظ والعمر قد تقدم به سنوات، فاختار أن يعتلي صهوة الإبداع بلا جهد ولا مقابل.
لحسن ملواني
لحسن ملواني
لحسن ملواني
كاتب مغربي. يعبّر عن نفسه بالقول "الإبداع حياة".
لحسن ملواني