تنازلنا أكثر مما ينبغي

تنازلنا أكثر مما ينبغي

12 ابريل 2018
+ الخط -
كان هناك رجل في إحدى البوادي، وكان له ديك يصيح صباح مساء، من دون توقف، كان صياحه قويا يجوب القرية بأكملها. وذات يوم، جاءه الرجل فطلب منه ألا يصيح بعد، لأن ذلك يشوش على تفكيره وراحته، إذ قال له: "إنك تزعجني بهذا الصياح، ولا أريد أن أسمعه مرة أخرى، وإذا ما سمعت صياحك فسوف أقوم شخصيا بذبحك".
بقي الديك المسكين حائرا أمام هذا القرار الجائر، والقاضي بمنعه من حرية التعبير، ومع ذلك لم يجد أمامه سوى الخضوع له والخنوع لرغبة سيده، عبر القول: "قبلت يا سيدي.. لن أصيح بعد اليوم".
مرت أيام، والديك لا يصيح، فيحاول كلما حضرته رغبة الصياح الاشتغال بأمور أخرى، يصرف من خلالها تلك الرغبة نزولا عند قرار سيده. وبعد هنيهةٍ جاء الرجل ثانية إلى الديك، فقال: "عليك في كل صباح بتقليد صوت من أصوات الحيوانات المختلفة، أريد أن أسمع منك كل صباح صوت حيوان من الحيوانات".
إنه في الحقيقة تحد صعب، لكن الديك المسكين ما كان عليه إلا أن يخضع لأمر سيده مرة أخرى اتقاء لشرّه وجبروته، وبقي الديك يقلد الأصوات تلو الأصوات، ويأتي الفجر في كل يوم مصحوبا بصوتٍ جديد، يبذل فيه الديك قصارى جهده لمحاكاته لا لغاية سوى نيل رضا سيده.
وذات صباح، جاءه سيده مرة أخرى، قائلا: "أريد منك بيضة كل صباح، وإن لم تفعل سأضطر لذبحك".
آنذاك علم الديك أنّ سيده لا يريد شيئا منذ البداية سوى الذبح، وأنّ هذه السخافات لن تتوقف، حتى يضرب عنقه، فخرج الديك المسكين إلى سيده غاضبا ووقف أمامه وقال له: "الآن اذبحني".
هكذا نحن العرب تنازلنا كثيرا إلى درجة انتشار حماقتنا، فلماذا هذا التنازل؟ لماذا لم نتنازل عند التحدي الأول؟ كيف ارتضينا بالذل إلى هذه الدرجة؟ وهل كان قدرنا هو ألا نعي حتى نبلغ مرحلة التنازل عن وظائفنا؟ ها نحن نشعر بالإهانة العظمى؟ لم يتنازل الديك في آخر المطاف، ولو تنازل كما فعل في الأولى والثانية لتخلى على علاقته بالكرامة والرجولة. إنها الكارثة.
هذا التنازل، يا معشر العرب، هو الذي جعلنا في افتقار تام لمعنى العزة والكرامة، إذ علينا أن نعيد النظر في مواقفنا بكل جرأة. وبكل بساطة، علينا أن نسترجع أوطاننا التي بيعت من كثرة التنازلات. لقد تنازل الديك، في المرة الأولى، خوفا من الموت، لكنه في الأخير فضل عرضه وكرامته وقدم نفسه للموت في مقابلهما. هذا ديك فقط يا معشر العرب، صاحب أضعف القلوب وأصغرها، استشهد مقابل الكرامة، فلماذا تنازل العرب أمام هذا العرض؟
لقد بعنا كل شيء، ديننا، أوطاننا، إخواننا، حريتنا..، حتى كرامتنا وعرضنا ولم نشعر (ولو من باب الحسرة) بالإهانة. نحن ملايين البشر، أيها العرب، بديننا وثقافتنا وحضارتنا.. أليس كذلك؟، نحن أكثر من ذلك، فهذه أرقامهم، ولا شك أنّها مزورة، لا بد أن يكون عددنا أكثر من ذلك، ولا ريب أنّهم يقلصون الأرقام لإضعافنا نفسيا وروحيا. تراهم يضعفون من أرقامنا السلبية، فقرنا، جهلنا، تخلفنا.. أو ليست خطة محكمة للقضاء على العروبة من دواخلنا؟ كل ذلك لإضعافنا يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.
تعالوا، لماذا لا نحصي أنفسنا؟ لماذا نختار أن نعيش بنمط القطيع، نحتاج دوما إلى من يحصينا؟
لسنا سوى سلعة، سوى قطيع يفترس الذئب منا أعدادا تلو الأعداد، فنعود في صمت كما يعود القطيع في آخر النهار. هم يحصون أعدادنا، أمواتنا وأحياؤنا... كل التفاصيل يعرفونها عنا، بل حتى التي نجعلها عن أنفسنا. لقد تنازلنا كما تنازل الديك، ومسبقا قبلنا الطريق الذي رسموه لنا، قبلنا خيار العبودية مهنة لنا مقابل أن نبيض فضلا منا وتكرّما.
لقد تنازلنا أكثر مما ينبغي يوم بعنا أوطاننا، يوم قبلنا التخلي عن وظائفنا خشية مواجهة الموت، فها نحن فقدنا كل شيء سوى الموت، ولم يبقى لنا سوى الموت. لا فرار لنا نحن العرب اليوم، علينا أن نواجه هذه المشنقة، وهذا السيف، وذلك السهم ونعري صدورنا للرصاص، استعادة لكرامتنا وحريتنا، أو موتا شريفا قبل أن يجيئنا مخاض الولادة.
مصطفى العادل
مصطفى العادل
مصطفى العادل
باحث في اللسانيات العامة بكلية الآداب، جامعة محمد الأول-المغرب. باحث بمركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية. الأمين العام للمركز العربي للبحوث والدراسات المعاصرة. رئيس قسم الأدب واللسانيات البينية بمركز مفاد.صدر له كتاب "المدارس اللسانية وأثرها في الدرس اللساني بالمغرب". يعرّف عن نفسه بالقول "كل لحظة تأتيك فكرة، يلهمك الله نورا لتعبر به عن معنى، فكن دوما مستعدا بسيف القلم كي لا تهزم في معركة الإبداع".
مصطفى العادل