كم مرةً يا أرض؟

كم مرةً يا أرض؟

02 ابريل 2018
+ الخط -
كم مرة سنقرأ قصيدة الأرض؟ كم ذكرى ستمر، ولا تمر الأرض في موعدها بين شمس وبحر، كفّ وفأس، ليل وفجر؟ كم مرة؟ لا أتساءل، بل أغني، كما فعل المغني الذي فتشوا حنجرته وصدره، فتشوا قلبه، فتشوا صوته، فلم يجدوا سوى جرح الحبيب والحندقوق؟ لا أتساءل بل أغني. كم مرةً، يا أرض، يأتي آذار ولا تأتين إلا صورةً في الألبوم، وأغنية في الراديو، وكلمة في معجم العربية؟
لقد جاءت الأرض كذا مرة، ولم نكن هناك. صعدت ولكنها لم تجدنا على الجبل. لا تسألوا البعيدين عن الأرض، فالبعيد عن الأرض بعيد عن القلب، بل اسألوا القريب منها. اسألوا ورثة الكلمات والشهداء والجراح والمفاتيح: ماذا فعلتم بالأرض، ماذا فعلتم لها؟ لكن هذا السؤال عموميٌّ أكثر من اللازم.
يقيس بعضهم جودة القصيدة بقدرتها على البقاء، وقدرتها على مخاطبة زمنها، وزمنٍ لا تراه في غبش ولادتها. نقول، كمن يمدح: هذه القصيدة كأنها كُتبت اليوم، كأنها تخاطبنا من زمن لم تره. هذا أقصى مديح تأمله القصيدة. ولكن، أهذا ما نشعر به عندما تحضر "قصيدة الأرض" لمحمود درويش مع آذار كل عام؟ أهو مديحٌ لقصيدة شاعر الأرض أن تحضر قصيدة الأرض ولا تحضر الأرض، أم هجاء لنا ولزمننا الذي لم تره؟
لقد رأيت المغنّي الذي غنّى للأرض قبل أيام، وقلت له: غناؤك لم يمت. أغانيك لم تبرح الراديو. مرّ زمن طويل عليها وها نحن نستعيدها كما لو أنك سجلتها اليوم! لم ينتبه المغني إلى نبرتي الساخرة. ظنها مديحاً. أهذه خصلة الزمن العربي وعلامته الفريدة: التكرار والمراوحة. أبقي شيءٌ في مغارة الكلمات والأغنيات لم يُقل ولم يُغنَّ؟ ظنّ المغني أن أغانيه قادرةٌ على البقاء، كما تبقى الأغاني التي تخاطب العواطف الكبرى، ولكن الشاعر الراحل لن يظن ذلك. ولن يسرَّه تحول قصيدته مناسبةً، أو نشيداً، فليس لهذا نزف قصيدته. لماذا تبدو أناشيد الآخرين عفا عليها الزمان، فيما ظلت أناشيدنا تخاطبنا في كل حين، كأنها وُضعت اليوم؟
لقد ظن الشاعر أنَّ قصيدته عابرة مثما ظن أن "الفاتحين" عابرون، إن لم يكن اليوم فغداً. فكل شيء، في لحظته، كان يشي أن الأرض ستبقى، ويزول ما علق بجسدها من علقٍ وطحالب وأشنات. تنفض جسدها فتسقط الطفيليات، وما جاءت به الريح من أوشاب. كان زمنه يقول له ذلك. لذلك كتب قصيدته المتفائلة بالواضح والغامض في تلافيف الفعل والإرادة والحلم. لا يخاطب الشعر زمناً غير زمنه، ولا أناساً قادمين من أرحام الغيب، فإن فعل صار حكمة، والحكمة علبة مغلقة.
شيء سيّىء أن تنوب القصيدة، كلماتها، إيقاعها، عن دلالاتها. شيء سيىء أن يظل النشيد معاصراً، ولا تبدو عليه آثار التقادم. لا يبدو نافلاً وغريباً عنا. هذا الحضور، وهذه الألفة سجنٌ. وشيء أسوأ أن ينوبا عن الواقع. كأننا نكتفي من الأرض بقصيدة الأرض، ومن كنس العابرين بنشيد كنس العابرين.
دعونا من البعيدين. لا نريد أن نسألهم عمن به من بلادةٍ ولا مبالاة وإدارة ظهرٍ. البعيدون بعيدون. لنسأل القريبين. بِمَ تحتفلون؟ لِمَ تستعيدون القصيدة وتبثّون النشيد؟ أليس هناك شيء آخر يُفعل؟ لِمَ ليست هناك خديجة أخرى؟ هذا هو السؤال. وهو يرى المجزرة على حدود غزة، ولكنه لا يرى أياديَ تلوّح في الضفة. ولا وراء الخط الأخضر. دعونا من البعيدين. لنسأل القريبين: ماذا فعلت "السلطة الوطنية الفلسطينية" التي لا هي سلطة إلا على أناسها، ولا وطنية، من أجل أن تتحول ذكرى يوم الأرض إلى ذكرى، لا حاضراً يتأبَّدُ في حضوره؟ ماذا فعلت سوى أنك رفعت العبء عن الاحتلال، وحولت شعبك إلى موظفين ومتلقي رواتب وساحبي قروض؟ لماذا على المغربي والعراقي والخليجي والمصري أن يكون فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين؟ هؤلاء يمكن أن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، بل عليهم ذلك، عندما يرون"شعب السلطة" يكسر قيد الوظيفة والتنسيق الأمني وقروض البنوك. أنتم من يحرّك الآخرين. ويطرح الأسئلة ويلقي حجراً في البئر. لا تنتظروا من هم وراء السياج. اصنعوا اللحظة، وسترون أن الزمن يستجيب. اركلوا هذه السلطة البائسة وعجائزها البائسين وعجزها عن القيام بأي فعل. لن يخسر المقيَّدون، عندما يكسرون قيودهم، سوى القيد نفسه. لا تقرأوا قصيدة الأرض، بل افعلوا قصيدة الأرض. اكتبوها من جديد.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن