حبل زهيد الثمن

حبل زهيد الثمن

02 ابريل 2018

(Getty)

+ الخط -
ينطوي القول إن شخصاً ما أقدم على الانتحار على مغالطة لفظية جسيمة، لا بد من الانتباه إليها، إذ تشي مفردة الإقدام بصفات الشجاعة والجرأة والمبادرة والتفاؤل وروح المغامرة والتحدّي والمقاومة، في حين أن فعل الانتحار، ومهما حاول الرومانسيون تمجيده وتجميله باعتباره فعلاً نبيلاًـ، وتعبيراً عن زهد واستغناء، ويضفون هالة من الغموض والبطولة على مرتكبه الذي يتحول إلى أسطورة، يظل تعبيراً عن نكوص الروح وتراجعها وهزيمة واندحار النفس التي فطرت على غريزة حب البقاء من حيث المبدأ. كذلك هو عجز مطلق وخلل نفسي خطير، ونتيجة متوقعة لحالات الاكتئاب النفسي الحادة التي يهملها الأهل، بل يسيئون فهمها ويخفقون في التعامل معها، وهو بكل الأحوال نهاية مأساوية حزينة موجعة لا تستدعي هذه الاحتفالية، والتي لا تخلو من انبهار وتمجيد، ويقوم بها حالمون.
أعرفُ فتاة جميلة رقيقة المشاعر، تصاب بانهيار عصبي إذا انكسر أحد أظافرها المطلية حديثاً. كتبتُ في رثاء منتحر نصاً لا يخلو من تعاطف، وصل إلى حد الإعجاب. وثمّة كاتبٌ مدّعٍ قناص فرصٍ، متهافت على الظهور والمكاسب مهما صغرت، يكتب بحرقةٍ ملفقة، معبّراً عن إعجاب كبير برفعة وعزة نفس الشاعر التونسي نضال الغريبي الذي انتحر أخيراً، بعد أن ترك رسالة مؤثرة، يفسر فيها موقفه الرافض من فكرة الحياة التي تمادت في ظلمه وحرمانه من سبل العيش الكريم، ومن حقه الطبيعي في فرصة عمل تؤكد إنسانيته، وهو المبدع المهمش الذي فقد الأمل والقدرة على المواصلة في دار الشقاء هذه. ويفلسف ابن القيروان، نضال الغريبي، فكرة الانتحار، مصرّاً على أنه ليس فعلاً أنانياً، بل قد ينطوي على إيثار وتضحية وإنكار للذات، مدللاً على ذلك بأنه اتخذ قرارالموت شنقاً بحبلٍ زهيد الثمن، حرصاً على بقاء أعضائه التي أوصى بالتبرع بها سليمةً قدر الإمكان، كما يؤكد أنه استبعد خيار تناول أدوية والدته المريضة، بسبب حاجتها الماسّة، في إشارة إلى ضيق ذات اليد الذي طغى على حياته، وقد بدت له قاحلةً من أي بشارة تغيير.
غادر إلى مصيره مبشراً بالحياة، كما ينبغي لها أن تعاش، موصياً بالاحتفال بالحب والفن والجمال، معلناً هزيمة تامة ونكراء، ماضياً إلى حيث سكينة العدم وحياد العتمة، وهو يدرك أن رسالته المؤثرة سيتم تداولها على نطاق واسع عدة أيام، قبل أن يطويه النسيان تماماً، ويصبح مجرد اسم في قائمة طويلة مفتوحة من الكتاب والفنانين المنتحرين. تماماً كما جرى قبل نحو عام في حكاية القاصّ الفلسطيني مهنّد يونس، الفتى العشريني، صاحب الموهبة التي انطفأت في مهدها، حين ذهب في درب الشاعرة سيلفيا بلاث التي زجّت رأسها في فرن مستنشقة الغاز حتى الموت. مهند الموهوب الحزين، طالب الصيدلة الذي كرّر محاولة الانتحار ثلاث مرات، قبل بلوغه الهدف المؤسف. لم يحتمل نكران الأب الذي تخلى عنه مبكراً في خلاف أسري، وطلاق دفع ثمنه تشتتاً في بيوت الأقارب الذين واصلوا نزاعهم المؤسف، في تبادل التهم عن سبب وفاته. ولم يأخذ أحد من العائلة تهديداته على محمل الجد. اتهموه بالادعاء جلباً للانتباه، وابتزازاً لمشاعر العطف المفقود، بل حثه أحد أقاربه متحدياً على تنفيذ تهديده بالانتحار.
قصص حزينة تحدث دائماً، ولن تتوقف في شرق الوطن ومغربه، وهي تعبير متطرّف عن خيبة أمل وخذلان وفقدان مناعة نفسية وإحساس بالظلم والفشل والعجز المطلق في ظل منظومة الخيبة، وانعدام تكافؤ الفرص أمام جيل عربي منكوب، زجوه إلى حافة هاويةٍ، لن يجد مفراً من الخلاص من هذا الجحيم سوى استعجال الموت باعتباره الفرصة الوحيدة لنيل الاعتراف والتقدير. وقد بات الموت، لشديد الأسف، بالنسبة لأولئك الضحايا المساكين من مرهفي الحس بالغي الهشاشة، بارقة أمل أخيرة!
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.