عندما يتردّى وضع المرأة السورية

عندما يتردّى وضع المرأة السورية

09 مارس 2018
+ الخط -
إذا كانت المعارضة، باعتبارها مفهوما عاما، هي العين الساهرة والمراقبة للحكومة وأجهزة الدولة ومؤسساتها ومتابعة أدائها، وما ترسم من خطط مستقبلية، وتضع من أجندات وتعمل على تنفيذها، وهدفها حماية حقوق الشعب ومنع احتكار السلطة والاستبداد الذي يمكن أن تمارسه السلطة الحاكمة يدفع ثمنه الشعب، فإنها بهذا المفهوم سلوك وممارسة وعمل دؤوب وكفاح ونضال، يزداد صعوبة كلما ازداد استبداد السلطة الحاكمة، بينما تمارس المعارضة دورها التنافسي في ظل الأنظمة الديموقراطية والمجتمعات التي صارت الديموقراطية ركنًا أساسيًا من وعيها العام، وتطرح رؤيتها وبرامجها في إدارة الدولة والمجتمع، لتخوض تنافسًا انتخابيًا يراهن على التأييد الشعبي والقاعدة التي تؤسسها تلك الأحزاب والحركات السياسية المناهضة للسلطة أو النظام الحاكم، وهي حق للمواطنين، يمارسونه عن وعي وإدراك لمعنى الاختلاف في المجتمع، وبأن ما يحق لي يحق للآخر المختلف عني.
ولكن، في ظل أنظمة شمولية قمعية، تحتكر السلطةَ السياسية فئةٌ اجتماعيةٌ ونخبةٌ سياسيةٌ ضيقة، أو حزب وحيد يصادر المجال العام، وينصّب نفسه قائدًا للدولة والمجتمع، كما حزب البعث في سورية، تحكم بواسطة شرعية دستورية صورية، وفي غيابٍ كامل للتقاليد الديمقراطية السليمة في الممارسة السياسية التي تقول بإمكانات التغيير باستخدام الوسائل السياسية غير العنفية. وبالتالي، فإن القوى المعارضة، على الرغم من خوضها كفاحًا طويلاً، وتعرّضها للقمع والملاحقة والاعتقال والتصفية الجسدية أحيانًا، فإنها تعجز عن تشكيل تيار 
سياسي يحظى بقاعدة شعبية واسعة، فيُشل الحراك السياسي، ويصبح العنف المتبادل الأداة الفاعلة والمستخدمة في صراع يفقد أهدافه بالتدريج، وتصبح غايته وصول المعارضة إلى السلطة بقلب نظام الحكم السائد. ولا يمكن إلاّ القبول بهذه النتيجة، خصوصا إذا ما راقبنا الحراك في منطقة ما دعي الربيع العربي، وسورية تحديدًا، فالحراك الذي انطلق بزخم شعبي كبير، وسلمية شاملة، لم يلبث أن انحرف عن سلميته أمام آلة العنف الجبارة التي جوبه بها، وبدأت أهدافه بالتراجع، وتركيز تلك الأهداف والشعارات المشروعة والضرورية لأي شعب، لكي يبني حياته ومستقبله في مطلب وحيد "الشعب يريد إسقاط النظام". ولكن، حتى هذا النظام المطلوب إسقاطه بجدارة وإلحاح لم يعِ الشعب من وجوهه غير النظام السياسي، بينما هو نظام راسخ متجذّر في نواحي الحياة كلها، نظام أمني محبوك بمتانة، يربط إلى عجلته أنظمة البلاد جميعها، من اجتماعية واقتصادية ودينية وإدارية وقضائية وغيرها. لكن الشعب الساعي بلهفة إلى الحرية كان في حاجةٍ إلى قوى معارضة، ونخبة تقوده في الدرب الصحيح، وتحميه من الانزلاق نحو مستنقعاتٍ مدمرة وقاتلة، فهو لم يكن يملك التطور السياسي والاجتماعي والثقافي اللازم، لمتابعة ثورة حقيقية تقوم على أنقاض الاستبداد.
لم يتطوّر الحراك نحو حركات شعبية مطلبية، بل أجهض وتحول إلى حرب بينية، انجرفت إليها مكونات الشعب السوري التي يُفترض أن تكون مصدر تنوع ثقافي واجتماعي، ورافعة تطور ونمو. حرب دينية مذهبية طائفية إثنية قومية، مع معارضة سياسية، لم تكن قاصرةً عن طموحات الشعب ومتعثرة الأداء فقط، بل كانت مرتهنةً، منذ البداية، لأطراف طامعة ومتصارعة فيما بينها على أرضنا، وتُرك الشعب يواجه الأعاصير المتضاربة بمفرده، يلقى به وقودًا لنيران الحروب التي تُدار عن بعد وعن قرب.
لم يأبه طرفا الصراع على السلطة في سورية، نظامًا ومعارضة، بمصير الشعب بكل مكوناته، وبأهميته، وبأنه يُفترض أن يكون الهدف الذي من أجله تنشأ الدول، وتُشكّل الحكومات، وتسعى في درب التطور وتأمين الحياة اللائقة بمواطنيها، نظام ومعارضة يسلكان الطريق نفسه، ويمارسان السلوك نفسه، ويطلقان الشعارات نفسها، الشعارات الخلبية التي تكذبها الوقائع على الأرض، بل ساهم الاثنان في تكريس كل ما يفتت المجتمع ويضعفه، ولم يكن حمايته والنهوض به في أولوياته، بل انقسمت النخب السياسية والثقافية والاجتماعية، بحسب ولاءاتها، كل مجموعة لا تعترف بكارثةٍ غير التي يعاني منها الواقعون تحت سيطرتها، معتبرين مسبقًا أنهم وحدهم يمثلون الشعب السوري. المعارضة تحكي وتطلق الخطابات باسم الشعب، والنظام يطرح الشعارات الحماسية باسم الشعب والوطن حيث يحكم ويسيطر، والنتيجة إنه لم يعد هناك شعب سوري، أولئك الصامتون والصامتات من العجز ليسوا مواطنين سوريين، هم مدانون ومتهمون من الطرفين بالتخاذل والرمادية المذمومة، يتعرّضون للقذف والشتم والسباب من كل الجهات، الجهات التي تدير حروبها الواقعية والافتراضية في الميديا والتواصل الاجتماعي. وأكثر المتضرّرين كانت النساء، اللواتي يدفعن ثمن تلك الحرب، بطرق مؤلمة مريرة قاسية، تولّد الخوف من المستقبل الذي بات بحكم المصادر لجهاتٍ لن تكون أرحم من النظام فيما يخص الحريات والحقوق، وفيما يخص المرأة تحديدًا.
وبمناسبة اليوم العالمي للمرأة، لا بدّ من القول إن المرأة في سورية لم تكن خلال العقود الماضية في وضع جيد، من حيث مكانتها في الحياة، على الرغم من ادعاءات العلمانية والمساواة والحقوق التي يضمنها الدستور، لم تتحرّر من القالب النمطي المتوارث عبر العقود، على الرغم من توفر التعليم الإلزامي والمجاني فترة طويلة، لكن التعليم كان كغيره مرتعًا 
للفساد، وكان إطارًا فارغًا لم يبق منه غير الترداد الأجوف لحقوق المرأة ومكانتها، حتى الاتحاد النسائي الذي حلّ أخيرا منظمة من المفترض أن تدافع عن حقوق النساء وتنهض بهن، لم يكن غير هيكل فارغ يلمّع النظام السياسي صورته به أمام العالم، ويُسكت الشعب به، لكنه لم يستطع أن يرفع الضيم والحيف عن المرأة السورية، لا قبل سنوات الحرب ولا خلالها. لم يطالب بإخلاء سبيل المعتقلات، ولم يناضل في سبيل وقف الحرب، وحماية من بقين من النساء من الترمل أو فقدان الأبناء في حرب رخيصة النوايا، يمارسها كل المتحاربين، أو حماية المرأة من بازارت المساومة على شرفها وكرامتها.
وفي المقابل، دفعت المرأة السورية الفاتورة الأبهظ في مناطق سيطرة الفصائل المسلحة والأطراف التي نصبت نفسها معارضة ضد النظام، وأطلقت على مناطقها لقب المناطق المحررة. محرّرة ممن ومن ماذا؟ المرأة تُهان وتغتصب بمسميات عديدة توحي بشرعية امتلاكها، حرمت من التعليم ومن العمل الكريم، وأجبرت على دفع أبنائها إلى حربٍ صارت مصدر الرزق الأكثر توفرًا في زمن الحرب السورية.
المرأة السورية مهانة بسبب الحرب في مناطق النظام والمناطق الأخرى، وفي مناطق النزوح واللجوء. مهانة حتى العظم، بلقمة أبنائها، بأمان أبنائها، بحياة أسرتها، بسلب إرادتها، بإقصائها عن الشأن العام، مهانة بالقوانين والأعراف والتقاليد والأنظمة القبلية والأبوية. مهانة حتى من الطبقة السياسية والنخب الثقافية، يستخدمها الطرفان، النظام والمعارضة، كرسالة حسن نيات إعلامية أمام الرأي العام العالمي، وأمام الدول التي ينتظر منها حل الخلاف السوري، وتسليم السلطة إلى أحد الطرفين المتصارعين. المرأة السورية هي ضحية الحرب الأولى والأكبر، وليست مواثيق الأمم المتحدة والمواثيق الدولية التي تجاهر بالمساواة بين الجنسين وإنصاف المرأة غير أبواق لطبول فارغة هي الضمير العالمي الذي لا يأبه بالمقتلة السورية، ويتعامى عن حروب القوى الجبارة فوق أرضنا، الحروب فائقة المكر والدهاء التي لم تعد الدول تخسر فيها من جنودها، حروب تُدار بالنيابة وقودها أبناء هذا الشعب، ونساؤها، أمهات المستقبل، فأي مستقبلٍ ينتظر أمةً بلا نساء يحملن البطون الخلاقة؟