عندما يكتسح اليمين الإيطالي الشعبوي

عندما يكتسح اليمين الإيطالي الشعبوي

08 مارس 2018
+ الخط -
حملت نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في إيطاليا، الأحد 4 مارس/ آذار الجاري، مفاجآت مزلزلة للمشهد السياسي الإيطالي، بصعود تحالف اليمين المحافظ والعنصري إلى الواجهة، مسجلا نسبة 35% من أصوات الناخبين. وقفز تيار النقمة والاعتراض الشعبوي الذي تجسده حركة النجوم الخمسة إلى المرتبة الأولى بمفرده، محققا نسبة 33%، فيما مني يسار الوسط الذي كان قابضا على الحكومة بهزيمة نكراء، أنزلته من فوق 30% إلى ما دون 20%. وسارع زعيم حزب يسار الوسط (الحزب الديمقراطي)، ماتيو رانسي، إلى الإعلان عن تقديم استقالته من زعامة الحزب اعترافا بالهزيمة. أما النتيجة المضحكة - المبكية فهي بقاء رئيس الحكومة الأسبق، سيلفيو بيرلوسكوني، خارج البرلمان أول مرة منذ 24 سنة، وحلول تياره في المرتبة الأخيرة بنسبة 14%.
تخرج إيطاليا من هذه النتائج مشلولة وممزقة الأوصال، بيسار مهزوم ومشرذم، ويمين لا يتمتع بالأكثرية كي يحكم بمفرده وليس مؤهلا أساسا للحكم، فقد خاض اليمين المحافظ والعنصري مفاوضات شاقة، للوصول إلى اتفاقٍ لخوض الانتخابات ضمن تحالف مشترك، وسط صراع على الزعامة بين تيار "إيطاليا إلى الأمام" الذي يتزعمه بيرلوسكوني و"رابطة الشمال" العنصرية المعادية للأجانب ولأبناء جلدتها من إيطاليي الجنوب، وحركة متواضعة تدعى "إخوة إيطاليا" التي تجسد شريحة ممن يشدهم الحنين إلى ماضي اليمين الفاشي الإيطالي. وكان 
بيرلوسكوني واثقا من أنه سيتقدم حتما الحلفاء، فاستقر الرأي بينهم على أن يكون مرشح التحالف لرئاسة الحكومة زعيم الطرف الذي يحصل على أعلى نسبة من الأصوات بين الثلاثة، إلا أن زعيم رابطة الشمال، ماتيو سالفيني، الذي سارع إلى إعلان شعبويته وافتخاره بصداقته زعيمة "الجبهة الوطنية" الفرنسية، مارين لوبان، حل أولا، وبات هو المرشح المفترض لتشكيل حكومة جديدة. تقابل هذا التحالف حركة النجوم الخمسة التي أسسها الكوميدي الإيطالي، جوزيبي غريللو، في أواخر 2009، حالة اعتراض على الطبقة السياسية المتهمة بالفساد والفشل في إدارة الدولة، وفي تحريك عجلة الاقتصاد وتخفيض نسبة البطالة التي يبلغ اليوم معدلها العام 11%، فيما تصل إلى 35% بين الشباب. وتسلك هذه الحركة نهجا غوغائيا في الاعتراض يصل إلى حد "التظاهر" داخل البرلمان، وإيجاد أحيانا حالة من الفوضى وتعطيل جلسات، وركوب موجة النقمة الشعبية لدى شرائح واسعة ومتنوعة، عابرة للطبقات والقطاعات. فكان حصان المعركة الانتخابية هو وعد الناخبين بما أسمته "راتب مواطنة" لكل من بلغ عمرا متقدما ولا يعمل، أو خسر عمله، تقوم الدولة بتأمين راتب شهري له. وهذا ما أكسبها شعبية لافتة ومكّنها من تحقيق نسبة 22% في الانتخابات الماضية، وها هي اليوم تحقق قفزة نوعية، تفوق 10%، على الرغم من عمرها الصغير نسبيا. وهي تصر على عدم التعاون أو التحالف مع أي من القوى السياسية الأخرى، وهذا ما أكد عليه زعيمها، بعد إعلان النتائج، وحذر من عقد أي صفقة من تحت الطاولة.
أما اقتراح بيرلسكوني فرض ضريبة واحدة متساوية على جميع الإيطاليين توازي 23% فلا يبدو أنها لاقت استحسانا لدى الناخبين، أم أنه هو على الأرجح لم يعد جذّابا للإيطاليين، بعد أن أصبح عجوزا تجاوز الثمانين عاما، وهزت صورته الفضائح الجنسية، والتهرب من دفع الضرائب، إلى درجة أن المحاكم الإيطالية والأوروبية فرضت عليه حظر الترشح للبرلمان. في حين لم يحظ الشريك الثالث (إخوة إيطاليا) الذي تتزعمه امرأة على أكثر من 4%.
وإذا كان اليمين، على الرغم من تناقضاته الكثيرة، قد تمكّن من نسج تحالف انتخابي بين مكوناته، فإن اليسار، في المقابل، واجه خلافاتٍ حادة، أدت إلى انشقاق داخل صفوف "الحزب الديموقراطي"، وخروج مجموعة من قادته، وذهابهم إلى تشكيل مولود جديد، أطلق عليه اسم "أحرار ومتساوون". وقد ضم هذا التشكيل سكرتير الحزب السابق ورئيس مجلس الشيوخ الحالي، وهو قاض سابق اشتهر بمحاربته المافيا، ورئيسة مجلس النواب الحالي وسكرتير آخر للحزب ورئيس حكومة سابق وآخرين، غير أن نشوء هذا الكيان اليساري الجديد، قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات البرلمانية، واقتصاره على نخبويين، وتصويب خطابه خصوصا على الحزب الأم، لم يساعده على فرض وجوده بقوة في المشهد السياسي، وإحداث خرق حقيقي في أول مواجهة له لم يتمكن فيها من الحصول على نسبة 4% من الأصوات. وكان سقوط بعض الوجوه القيادية مدويا، لكن هذه النسبة مكّنته، في كل الأحوال، من تخطي عتبة 3% المطلوبة، لكي يتمثل بمقاعد في البرلمان. ناهيك عن وجود تشكيلات يسارية أصغر حجما، تعتبر نفسها أكثر يسارية وأكثر جذرية وأكثر تمثيلا، وبعضها ذات ولاءات أوروبية شديدة الوضوح، غير أنها خاضت كل منها بمفرده هذا الاستحقاق، ما منعها من دخول البرلمان، وأدى إلى شرذمة جمهور ناخبي اليسار.
ماذا سيحصل الآن، ومن سيحكم إيطاليا بعد هذه النتائج؟ ينص قانون الانتخاب الجديد على أنه إذا حصل أي حزب على نسبة 40% وما فوق، فسينال الأكثرية المطلقة التي تمكّنه من 
تشكيل الحكومة بمفرده. وبما أن أحدا لم يحصل على هذه الأكثرية، حتى تحالف اليمين الثلاثي، فإن مرحلة سياسية دقيقة وعسيرة تنتظر إيطاليا. مبدئيا ودستوريا مفترض أن يكلف رئيس الجمهورية زعيم حركة النجوم الخمسة تشكيل الحكومة لأول مرة. ولكن الحركة تحتاج إلى عقد تحالف مع طرف واحد على الأقل، يؤمن لها الأكثرية المطلوبة، وهذا الطرف هو الحزب الديموقراطي. وهذا شبه مستحيل، وإذا لجأت إلى تحالف مع "الثلاثي" مجتمعا، عندها تصبح الأكثرية في يده، وستتم له السيطرة على الحكومة.
تلوح في الأفق أزمة حكومية طويلة، على رئيس البلاد استنباط الحلول والمخارج لها، من حكومة أقلية يمكن إسقاطها بسهولة إلى حكومة وحدة وطنية، وهي الحل الأصعب، أو حكومة تكنوقراط مهمتها وضع قانون انتخابي جديد، والعودة مجددا إلى صناديق الاقتراع خلال فترة قصيرة، كما حصل لدى جارتها إسبانيا. فهل هي عدوى المناخ الذي يسود أخيرا في أوروبا ويتجه نحو اليمين؟ أم إنه تأكيد على أن الاحتكام إلى صناديق الاقتراع ليس هو دائما الحل الأفضل! إنه يعكس على الأرجح انعدام الثقة ومدى اليأس من الطبقة السياسية الذي أصاب الناخب الإيطالي منذ سنوات، ودفعه إلى خيارات مزاجية، أو الابتعاد عن الاهتمام بالشأن العام، على الرغم من تجربة إيطاليا السياسية والديمقراطية الغنية، العصية والبعيدة جدا عن الثنائية الحزبية التي تميز معظم الدول الأوروبية.
هذا المشهد الذي خرج من صناديق الاقتراع هو الأول منذ نحو عشرين سنة الذي لا تنتج فيه الانتخابات أكثرية محدّدة في هذا الاتجاه أو ذاك، حتى ولو كانت أكثرية فضفاضة، مكونة من تفاهم مجموعة أحزاب وقوى في يسار الوسط، أو الأمر نفسه في معسكر يمين الوسط.

دلالات

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.