سلطتان في فراش واحد

سلطتان في فراش واحد

08 مارس 2018
+ الخط -
(1)
دور النائب في الدول الديمقراطية  (الحقيقية) التشريع والرقابة، وأضيفت مهمة أخرى، بسبب الظروف العامة في بلادنا العربية  التي ترتدي مسوح الدمقرطة، هي لعب دور الوسيط بين الناس وأصحاب القرار، لتحصيل حق معتدى عليه، أو رفع ظلم من مسؤول، أو تسليك معاملة متعسرة. المهمة الجديدة التي أضيفت كما يبدو منذ زمن ليس قريبا، هي الاستقواء على عباد الله، باعتبار أن النائب يمتلك "حصانة"، وفي وسعه أن يلعب فوق القانون وتحته وفق ما يريد، مع أن الأصل أن يكون نصيرا لهم، رافعا الظلم عنهم، لا أن يمارس حصانته لأكل أموال البشر، أو هضم حقوقهم، أو تضييق سبل العيش عليهم، وهو ضيق أصلا من دار أهله.
الأصل في الديمقراطيات الفصل بين السلطات، أما حينما تنام السلطات الثلاث في فراش واحد، أو حتى سلطتان على الأقل، فقد تحوّل النظام الديمقراطي إلى مجرد ديكور، بل ربما يتحوّل إلى لونٍ آخر أكثر لعنةً من النظام العرفي، حيث يحكم البلد حاكم عسكري عام، يصدر قوانينها بمراسم عسكرية، غير خاضعة للنقاش أو المراجعة، فما بالك بالتصويت، حتى ولو كان شكليا، كما يحصل عادة.
سلطتا التشريع والتنفيذ، في الأردن تحديدا، تنامان في فراش واحد، وبدلا من أن يكون مجلس النواب عونا للمواطن، أصبح عونا عليه، خصوصا حينما يمنح ثقته لقرارات حكومية اقتصادية حولت حياة الناس إلى جحيم.
(2)
ليس المراد هنا الحديث عن المكاسب والمنافع التي يحققها النائب في نظامٍ كهذا له ولأقاربه ولمعارفه وأحبابه، بل عن مقطع عرضي سريع لسلوكٍ مستهجنٍ لمن كلف بالسهر على حماية مصالح الناس، كيف يصبح كابوسا في حياتهم، هي قصة حدثني بها مواطن أردني عادي مقهور، تحمل في جوانبها عرضا لما يمكن أن يحصل، حين تتعارض مصالحه مع مصالح شخص "واصل" أو قوي و"محصن".
آلمتني القصة إلى حد القهر، ذكرتني بقصة محمد البوعزيزي الشهيرة، ولا تختلف كثيرا عن قصة استقواء موظف الديوان الملكي الذي تعدّى على سائق حافلة، فاضطر بعد افتضاح القصة إلى الاستقالة، وربما تصل هذه القصة إلى صاحب القرار، فيجد النائب ما وجده موظف الديوان.
(3)
المواطن صاحب مشتل لبيع الأشتال الزراعية، يقول: كنت أعتقد أن أكبر مشكلاتي، كصاحب
 مصلحة، هي الصمود بوجه العوائق الاقتصادية التي تعصف بنا كل يوم، وكصاحب مشتل، كل همي أن يبدأ الموسم حتى أتنفس الصعداء. بعد فترة سكون قاتلة، تراكمت علي الديون وتكالبت علي فيها الهموم. وحيث إنه قبل فترة تم افتتاح نادٍ رياضي قريب منا لأحد النواب، فقد عاملناه بكل محبة وإحسان، إلى أن جاء اليوم الذي كنت أقف فيه أمام مشتلي، حيث جاء هذا النائب ليؤمِّن موقفاً لسيارة زبونته داخل حرم مشتلي. وعندما اعترضت بكل أدب، بدأ بممارسة فنّه بالشتم والصراخ، والتهديد بحصانته التي يُفترض أنها مُستمدة من الشعب. وضرب أحد ضيوفي، وشتمنا بأعراضنا، وذلك كله أمام رجالٍ من الشرطة. وبعد أن تقدمت بالشكوى، لأنني اعتقدت أن حقي لن يضيع، فوجئت بالأقبح، حيث أمر النائب موظفيه بالاصطفاف أمام واجهة مشتلي وباب رزقي، ووجه إلينا التهديد مراتٍ، وتوعّدنا بإغلاق المشتل، لأننا بحسب تعبيره (ما بتعرفوا مع مين علقتوا). وفعلاً لم يعد الزبائن يستطيعون الاصطفاف. ويبدو أن ديوني ستزيد، وأن البضائع المكدسة التي انتظر تسديد ثمنها لأصحابها ستكون رفيقتي في زنزانة الظلم والقهر. هل رخصة المشتل التي أصدرتها بشق الأنفس من أمانة عمان الكبرى لن تصمد أمام هذا النائب ونفوذه؟ هل هذه قيمتي باعتباري مواطنا أردنيا أمام هذا الشخص الذي يفترض أنه يمثلني، ويحافظ على حقوقي ويرعى مصالحي؟ يختم هذا المواطن: ضاقت بي الأرض بما رحبت، حيث إن الصبر إذا نفد سيُخرج من الإنسان أسوأ ما فيه للدفاع عن حقه وممتلكاته أمام هذا الكائن "الخطير" الذي كلما واجهنا مسؤولا يقول لنا (علقتكم مش سهلة)، فمن هو هذا النائب الذي حوله كل هذه الحصانة الدكتاتورية؟ لن تنتهي المشكلة على خير، إن استمر في ظلمه، بل ستنتج عنها خلافات عشائرية، وصِدامات نحن في غنىً عنها، لأنه ما زال هناك أمل بأن القانون أقوى، وأن المواطن الأردني ما زال يملك بعضاً من الحقوق.
(4)
حاولت حل هذه المشكلة عبر أكثر من طريق، وفشلت، ما زاد إحساسي بالمرارة والظلم، ربما أكثر مما يحس به صاحب المشكلة، فعلى مدار عملي في الصحافة الأردنية ما يزيد عن ثلاثين عاما، كنت أواجه بمثل هذه المشكلات وأنجح في حلها، لكن يبدو أن حجم التوحش الذي بات يتسيد حياتنا في الأردن، وفي غيره من بلاد العروبة، بات من القوة والجبروت، حتى بلغ حدا لا تصلح معه المهادنة. والمؤلم هنا أن ثمة نوعا من التعايش الغريب بين المواطن العادي والاستبداد، في الوطن العربي، وما هذه القصة غير نوع مصغر جدا مما يجده هذا المواطن من عنت العيش، وقسوة الأنظمة. ومع ذلك، لا يكف عن إعلان الولاء لها، والتسبيح بحمدها.