السيسي وجرائم الغوطة.. هذا الاقتراب

السيسي وجرائم الغوطة.. هذا الاقتراب

06 مارس 2018
+ الخط -
لم يلتفت نظامُ عبد الفتاح السيسي، فيما يجري في الغوطة الشرقيَّة، (ودماءُ الأبرياء والأطفال لمّا تجفّ بعد) إلا إلى التنظيمات المتطرِّفة، التي تؤجِّج الصراع (!)، إذ قال مندوب مصر لدى الأمم المتحدة، في جنيف: "نودُّ التأكيد على أهمية تكاتُف المجتمع الدولي لمواجهة التنظيمات المتطرِّفة المصنَّفة دولياً.. باعتبار أنها تؤجِّج الصراع، وتزيد من حدَّة المعاناة الإنسانية التي يشهدها الشعب السوري، منذ سنوات، وتعرقل جهود التسوية السياسية. كذلك نشدّد على ضرورة وقف كل أنواع الدعم الخارجي للجماعات المتطرِّفة".
هذا الانحياز إلى وجهة نظر نظام بشار الأسد، حتى التطابُق، من دون أيّ مراعاةٍ للجوانب الأخرى للمأساة السورية النازفة، ومن دون التفاتٍ إلى حجم الدّمار المرعب والمتمادي الذي يحكم طبيعة معالجة النظام السوري و(حلفائه) المعلنين، من موسكو إلى إيران، يثير تساؤلاتٍ عن خلفيَّات هذا الموقف.
لا حاجة إلى كثير تأمّل، فالنظامان متقاطعان، في التلحُّف بمحاربة الإرهاب، دوليًّا، ومحليًّا، للتغطية على استحقاقاتٍ وجوديَّة لكليهما. وفي الدول الطبيعيَّة لا تحجبُ قضيةٌ، مهما كبرت، وألحّت قضايا مهمَّة أخرى، حتى في مصر لفت انتباهي حوارٌ، على قناة دريم، بين مذيعةٍ
تسأل إحداهن، ممّن بالغْنَ في الرَّداءة، عن مقطعٍ "غنائيٍّ" لها، ينطوي على تلميحاتٍ مُسِفَّة، وقد حاولت الهروبَ إلى ثِيمة الإرهاب التي غطّت وطمّت، في إعلام السيسي، لكنَّ المذيعةَ لم تجد نفسها منساقةً معها إلى ذاك الوشاح الذي أرادته غطاءً لتلويثها البيئة، والذوق المصري.
وفي دولة الاحتلال التي يُعَدُّ الأمنُ هاجسَها الأوَّل، وهو متعمِّقٌ في عقيدتها البنيوية، بحُكْم ظروف النشأة، وعدوانيَّتها من الأساس، لا يعيقُ الأمنُ، هناك، سَيْرَ التحقيق مع رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، الذي هو في غمرة (إنجازاته) التي تُوجِّت بقرار واشنطن نقْلَ سفارتها إلى القدس، لا يعيق القضاءَ لا انخراطُ إسرائيل في ملفّات المنطقة التي تزداد سخونةً وخطورة، كما رأى باحثون إسرائيليون، مثلا، تعليقا على مداولات مؤتمر ميونخ للأمن: أنّ صورةً مقلقةً للأمن الإسرائيلي تعكسها تلك المداولات. ولا تشفع لنتنياهو، لا مواهبُه السياسيَّة وانعكاساتها داخليًّا، ولا علاقاتُه الممتازة بأهمِّ دولةٍ حليفةٍ لإسرائيل، وهي أميركا. ذلك بسبب تلك الفلسفة القانونية الحقوقية القائمة على فكرة مهمَّة، هي أنّ خيانة الأمانة، والفساد، يَخْرِمانِ الكفاءةَ الأوَّليَّة للحاكم، ويطعنان الشَّعْبَ في ثقته بنفسه، وفي دولته، ومؤسَّساتِها.
وهذه أميركا ورئيسُها دونالد ترامب الذي رفع شعار "أميركا أوَّلا"، ويعمل لاسترضاء قطاعاتٍ كبيرةٍ من الشعب الأميركي، اقتصاديا، ولو بإجراءات حِمائيَّة، وسياسةٍ تقترب من الانعزاليَّة، بذريعة الأمن القومي، هذه أميركا لا توقِف تحقيقاتِها، في تدخُّل روسيٍّ محتمَل في الانتخابات الأميركية التي فاز فيها ترامب. ثم لا يتمتَّع مقرَّبون منه بميِّزات تُحَصِّنهم من القانون، كما كان مع جاريد كوشنر، صهر ترامب، وأحد كبار مستشاريه، حين حُرِم من الاطِّلاع على معلوماتٍ استخباريَّةٍ وأمنيَّةٍ دوريَّة.
فكيف نقول عن حكّام عرب، لا يعتريهم فقط التشكيك في نزاهة الأداء، ولا تثار حولهم التساؤلات، في تلاعبهم بمُقدَّرات البلد والشعب الماليَّة، إنما وصولُهم إلى رأس السلطة التنفيذية نفسه غيرُ دستوريٍّ، ولا شرعيّ. كما بشار الأسد الذي غُيّر الدستورُ ليكون على مقاسه، ثم، خرجت جموعٌ كبيرةٌ من الشعب، بعد أن يئستْ من فرص الوصول إلى الإصلاح، عبر هياكل الدولة، إلى الشارع، ثم لم يسفر ذلك، عند الأسد، إلا عن دمارٍ ومجازرَ جديدها في الغوطة الشرقية، من دون أن يبدي استعدادا جِديّا لتلبية مطالب جوهريَّة في بنية النظام الأمني.
أما عبد الفتاح السيسي فأمْرُ انقلابه، ودمويَّةُ وصولِه إلى السُّلطة، ثم استبداده غير المسبوق في مصر، أشهَرُ من أن يُفصَّل. هذا الاستبداد الذي لا يسمح بفتح قنوات الاتصال والحوار مع الأطياف والتوجُّهات الأخرى، وهذا الاستبداد الذي يُقصي كلّ منافس جِديٍّ للسيسي، (منهم رئيس أركان الجيش المصري السابق سامي عنان، والفريق أحمد شفيق، مرشَّح الرئاسة السابق)، في انتخاباتٍ رئاسيةٍ كان من الممكن أن تكون فرصة حقيقية للتغيير، واستعادة قدرٍ من مكوِّنات الحياة السياسية المغيّبة، كما يقول مثقفون وسياسيون مصريون، أو فرصة (على الأقل) للتنفيس.
ونظام السيسي، إذ يختار الذهابَ إلى هذا المدى في تأييد الأسد وحلفائه، (على الرغم مما يُفترَض أن يُملي عليه تحالفُه مع دولٍ خليجية، ترى في التغوّل الإيراني في سورية والمنطقة خطرا حقيقيا)، إنما يعلن رسالةً للشعب المصريِّ إنه يَستحسِن هذا الكمّ التدميريَّ في حَلْحَلة الأزمات، فلو اقتضى الأمر، لا قدّر الله، (وهو فعَل، ويفعل ذلك، جزئيًّا، في مدن محافظة شمال سيناء، تدميرا وتهجيرا، كما كان حين إقامة المنطقة العازلة في مدينة رفح، على الحدود مع قطاع غزة، وأدَّى ذلك إلى تهجير آلاف السكان، وتدمير مئات المنازل، 2014، وكما في قرار السيسي أخيرا إقامة حرمٍ لمطار العريش الذي سيُفقِد المدينةَ نصفَ مِساحتها) أنْ يوسعه إلى مدنٍ مصرية أخرى فلا مانع عنده. مع أنَّ طبيعة الشعب المصري، ومقادير التجانُس فيه، وعلاقته بجيشه، وعلاقة جيشه به، تُصعِّب عليه هذه الخيارات.
وإذا كان السيسي قد اختار هذا النموذج العربيّ من الحُكْم، ليقترب منه، أو ليستلهم منه، فهل يُرضيه المصيرُ الذي آلَتْ إليه سورية، بسبب نهْجِ بشار هذا، وخياراته؟ حيث أضحى الأخير مجرَّدَ أُلعوبة في يد روسيا - بوتين، ورهَن ما تبقَّى من سيادة سورية لموسكو، سنين مقبلة، إن لم تَحدث تغيُّرات انقلابية.

وأخيرا، فلعلَّه آنَ الأوان أنْ يُصحَّح مفهومُ الأمن، عربيًّا، من معناه التقليديِّ العسكريّ، إلى معناه الحقيقيّ الأوسع، ليشمل مسائلَ تتعلَّقُ بالجوانب الاقتصاديَّة والبيئيَّة والديمغرافيَّة، ولا يقتصر على مجرّد معالجات قمعيَّة ودمويَّة، كثيرا ما تغدو كالعلاج الكيميائيِّ للسرطان، وهو الذي لا يفرِّق بين الخلايا الخبيثة والخلايا السليمة. فضلا عن مآلات تلك المعالجات التي تُنهِكُ جسمَ البلد والشعب، وتعكّر فرصَ العلاجات الأخرى، إلى عناصر علاجيَّة شاملة، تأخذ بالحسبان تراكُم الأزمات واستفحالها، بسبب الإرث الطويل من العشوائيَّة والانتقائيَّة، وكثرة النماذج السلبيَّة المحتمية بتلك النُّظُم التي تتبادل وإيَّاها منافعَ ضيِّقة. آنَ الأوانُ ليتَّسع مفهومُ الأمن، مِن أمنِ النظام، أو السُّلطة الحاكمة، إلى أمن المواطن والوطن، أيضا، أو أوَّلا.