السيسي نبراساً للاستبداد العربي الجديد

السيسي نبراساً للاستبداد العربي الجديد

01 ابريل 2018
+ الخط -
لا مبالغة في القول إن نظام عبد الفتاح السيسي في مصر بات يمثل تحديا حقيقيا لمختلف مباحث الاجتماع السياسي، ففضلا عن أنه يؤشر على مرحلةٍ غير مسبوقة في تطور نسق الاستبداد العربي، فهو يعكس، أيضا، قدرة لافتة على تبرير ''شرعيته''، بشكلٍ يبعث على السخرية، الأمر الذي يطرح، فعلا، سؤال الهوية السياسية والاجتماعية لهذا النظام.
قبل فترة، عاتب السيسي المصريين على تحميله مسؤولية تردّي الصحة والتعليم، وكأن لسان حاله يقول إن إحكام قبضته الحديدية على السلطة لن يقابله، بالضرورة، تحسين ظروفهم المعيشية والاجتماعية، سيما في هذين القطاعين الحيويين.
معروفٌ أن أحد المصادر الأساسية لشرعية الأنظمة التي تتحدر من العسكرتارية العربية توفير العمل والتعليم والصحة لقطاعات واسعة من المجتمع، الأمر الذي كان يشكل دعامة سياسية واجتماعية لهذه الأنظمة، لا سيما أن لهذه المعادلة وجهها السلبي، ممثلا في احتكار السياسة، ومنع الأحزاب، وتقييد الحريات والتحكم في الإعلام. وقد مثلت هذه القطاعات الثلاثة (التشغيل، الصحة، التعليم) العنوان البارز للعرض الاجتماعي والسياسي الذي كانت تقدّمه الدكتاتوريات العسكرية العربية على امتداد النصف الثاني من القرن المنصرم، قبل أن تهب رياح ما بعد الحرب الباردة، وتهتز على وقعها العقائدُ والإيديولوجيات الشمولية التي كانت تؤطر هذا العرض وتُشرعنه.
من هنا، يُفترض أن يكون الرهان الأكبر للنظام المصري الحالي إعادة الاعتبار لهذه القطاعات 
بعد عقود متواصلة من التردّي، بالعمل على بلورة برامج مستعجلة، تتصدّى لمعالجة مشكلات الفقر والبطالة وسوء الخدمات الاجتماعية الأساسية، وذلك مبرّر ''يُسوِّغُ'' الانقلابَ الذي أعاد المؤسسة العسكرية إلى السلطة قبل أربعة أعوام، والإجهازَ على مسلسل التحول الديمقراطي. لكن نظام السيسي، بسبب افتقاده المريع الشرعية اللازمة لوجوده في السلطة، بدا عاجزا عن تقديم عرض اجتماعي وسياسي يحظى بقبول المصريين وتأييدهم، فلم يكتف بالانقضاض على الحكم، وتعطيل المسار الانتقالي، ومصادرة الحقوق والحريات، وتكميم الأفواه، والتنكيل بخصومه، وتسخير الإعلام لخدمة نظامه، بل تعدّاه إلى اجتراح وصفاتٍ غير مسبوقة في التدليس والمناورة.
طلب، في البداية، من المصريين الصبر، بعض الوقت، حتى يتمكّن من الاستجابة لمطالبهم الملحة والمتراكمة، ثم سرعان ما انتقل إلى مرحلة جديدة عنوانُها الأبرزُ التسويف الممنهجُ، قبل أن ينتقل إلى طور ثالث، كشف فيه عن الوجه الحقيقي لنظامه الاستبدادي، بعد أن وضع يده على المفاصل الحساسة للدولة المصرية (الأمن، المخابرات، الإعلام..)، وضمِن دعم الغرب وإسرائيل وقوى الثورة المضادة في الخليج.
وفي كل هذه الأطوار، لم يتخل عن التلويح بورقة الإرهاب، وتقديم نفسه، في الداخل والخارج، باعتباره صمام أمان في مواجهات التنظيمات المتشددة، بيد أن المفارقة كانت صارخة في هذا الصدد، حين أثبتت أجهزته الأمنية فشلها الذريع في الحد من أعمال العنف المستمرة، وخصوصا في سيناء.
من المسؤول، إذن، عن توفير الصحة والتعليم وغيرهما من الخدمات الاجتماعية الحيوية في مصر، إذا كان قائد الانقلاب يتملص من ذلك، ويعتبر أن لا يد له في ما يعانيه المصريون في هذا الصدد؟
ليس السيسي رئيسا في نظام برلماني تُعدُّ فيه السياساتُ والبرامجُ من حكومة منتخبة يقودها رئيس وزراء، وتكون صلاحيات رئيس الدولة، في هذه الحالة، محدودة ولا تترتب عنها المسؤولية السياسية. إنه ''رئيس الدولة، ورئيس السلطة التنفيذية'' حسب مقتضيات الدستور المصري الحالي، كما أن الممارسةَ، والثقافةَ السياسيةَ والاجتماعية السائدة، ومكانةَ الجيش في السياسة المصرية، وميزان القوى، ذلك كله يجعل المسؤولية عن كل ما يقع في البلد كاملة على عاتقه.
ومع مهزلة الانتخابات الرئاسية أخيرا، يكون هذا النظام قد أصبح مرجعية أو بالأحرى
''نبراسا'' للاستبداد الجديد الذي يعيد، الآن، في أكثر من بلد عربي، ترتيبَ أوراقه، وقراءةَ المتغيرات الجارية. إنه القوة الدافعة لمختلف التراجعات الكبرى التي تعرفها المنطقة في مجال الحقوق والحريات الأساسية، وإجهاضِ مسارات التحول نحو الديمقراطية، وإيجاد بيئة سياسية تعيد إنتاج الاستبداد في حلة مغايرة.
حين يوضع نظام السيسي في مقدمة القوى المناوئة لحركة التغيير في المنطقة، فذلك ليس من باب التقصُّد الذي قد لا يستسيغه بعض أشقائنا في مصر، فالأمر يتجاوز ذلك بكثير، فهذا النظام يتحمل مسؤولية تاريخية كبرى في الانتكاسة التي منيت بها معظم الثورات العربية، وخروجها عن مساراتها الانتقالية، ودخولها في طور غير مسبوقٍ من الفوضى والاحتراب وعدم الاستقرار.
نجاحُ المسار الانتقالي في مصر كان سيشكل درعا قويا لتونس التي تستبسل، الآن، في الحفاظ على ديمقراطيتها الفتية. وكان سيعطي دفعة قوية للقوى والتنظيمات المدنية والديمقراطية في المنطقة. ويربك، بالتالي، حسابات القوى التي تتربص بهذه الثورات، لتنقض عليها وتفرغها من حمولتها التغييرية.
من المخجل، فعلا، أن يلجأ نظام السيسي، خلال الانتخابات أخيرا، إلى أساليب بالية في الحشد والتعبئة، كنا نعتقد أنها اختفت من المشهد العربي، بعد المتغيرات التي حصلت إبّان السنوات القليلة المنصرمة، وتنامي الوعي بضرورة القطع مع الاستبداد بمختلف أشكاله. وإذا كانت نتيجتها تبدو محسومة سلفا، فذلك يبدو بمثابة نقطة أخرى، على قدر كبير من الدلالة، تسجلها قوى الثورة المضادة في المنطقة.