ريم بنّا

ريم بنّا

29 مارس 2018
+ الخط -
فقدنا ريم بنّا، المناضلة والمغنية التي حملت فلسطين عقودا، مناضلة ومغنية لها. ظلت متمسكة بفلسطين كل فلسطين، وهي تعيش في الناصرة، وبغنائها قدّمت لفلسطين أكثر بكثير ممن يزاود باسم فلسطين، حيث كانت بوصلتها واضحةً بلا تردد أو تقلّب. لهذا وقفت مع الثورات في البلدان العربية، لأنها تعرف أن هذا هو طريق الخلاص. تعرف أن الشعوب هي التي تحرّر فلسطين، وليس النظم القائمة التي تلهَّت بفلسطين وهي تبيعها، وزاودت باسمها وهي تسحق الشعب الفلسطيني، وتسحق شعوبها. وظلت كذلك من دون تردد، بوعي ومعرفة بكل طبيعة الصراع القائم، وبأن عليها أن تستمرّ من أجل فلسطين، فلسطين كلها.
غنت أجمل الأغاني لفلسطين، وبرعت في إيصال قضيتها إلى حيث يجب أن تصل. رحلت أخيراً بعد سنوات من الألم نتيجة مرض السرطان، من دون أن تقبل مساعدة أحد في علاجها. ومن دون أن تكمل مشروعها الغنائي، وترى تحرّرنا وتحرّرها من الاحتلال الاستيطاني، ومن نظم الاستبداد والنهب والمافيا. قاومت إلى آخر لحظة، ظلت على أمل أن تكمل، على الرغم من فقدانها القدرة على الغناء، أن تكمل النضال من أجل فلسطين. خسارة كبيرة لفلسطين وللغناء الثوري، وفقدان صعب بالتأكيد. وهي خسارة لفلسطين وللثورات العربية، كما هي خسارة لأهلها وأصدقائها وكل محبيها الذين تذوقوا أغانيها، وحرّضتهم من أجل فلسطين والثورة والغناء الجميل.
رأى بعضهم في هذه الخسارة الكبيرة انتصارا له، كون ريم وقفت مع الثورة السورية ضد نظام  مستبد مافياوي ووحشي. انهالت التهم وعلت الشماتة من "الممانعة"، و"الممانعين" الأشداء الذين باتت بوصلتهم ليست فلسطين، بل النظام السوري. لقد قلبوا "الحلقة المركزية"، وغيّروا الأولويات من أجل الدفاع عن نظام دمّر نصف سورية، وشرّد نصف سكانها، واستجلب الاحتلالات، فقط لكي يبقى في السلطة. وهو نظام أسكت جبهة الجولان كل العقود السابقة، وأسهم في تدمير المقاومة الفلسطينية في لبنان، بالتفاهم مع أميركا، وشارك في الحرب ضد العراق مع "زعيمة الإمبريالية"، وظل في تواصل مع الدولة الصهيونية. وقام أخيراً بأهم ما تريده الدولة الصهيونية: تدمير سورية، البلد والجيش، وجلب احتلال يتحالف مع هذه الدولة، أي روسيا.
كيف تنقلب البوصلة بهذه البساطة؟ وكيف لا تصبح قضية فلسطين والمدافعين عنها هم الأساس، ويصبح الموقف هو مع نظام عمل عقودا ضدها، وضد الذين يريدون تحريرها؟ طبعاً يجري ذلك كله تحت وهم "المؤامرة" الإمبريالية التي تريد إسقاط نظام "وطني". وكأن كل تاريخ النظام (كان كثيرون من هؤلاء يفضحه) لا يكفي لفهم الوضع بطريقة أخرى، لكن "طربوش" الإمبريالية يغطي على كل سخافات الفكر، وتفاهات التفكير. يكفي أن تقول أميركا حتى يضيع العقل.
انقلبت البوصلة إذن، إلى عكس ما يوصل إلى فلسطين، وبات هؤلاء "الممانعون" يخدمون أسوأ النظم، وأسوأ الإمبرياليات، من أميركا إلى روسيا. هم في صف الرجعية التي تعمل على التدمير والقتل، إنهم قتلة.
ثم، إن جلّ هؤلاء "الممانعين" يعترفون بالدولة الصهيونية، ويقبلون بحلّ يبيع 80% من فلسطين. هم مع حل الدولتين، وجزء منهم اعترف بالدولة الصهيونية منذ زمن طويل، ولا يرى إمكانية لإنهائها، بل "يناضل" من أجل حقوق إنسانية و"قومية" فيها. هؤلاء بعكس ريم حوّلوا فلسطين إلى وهم، وباتت العصا التي تواجه كل من يريد تحريرها. ربما هذا يفسّر "زيادة الدوز" ضد الإمبريالية في الخطاب، ودعم نظام يخدم وجود الدولة الصهيونية، حيث فلسطين شماعة ليس إلا، وحيث "المؤامرة" والإمبريالية تغطية على أسوأ المواقف وأخسّها. المواقف التي تخدم "المؤامرة" والإمبريالية.
ربما يوضّح هذا أن البوصلة هي أصلاً ليست فلسطين، بل التهويمات الذهنية هي الغطاء الذي يخفي الموقف الحقيقي: ضد فلسطين.
في كل الأحوال، باتت قداسة فلسطين تغطي وسخ كثيرين.