دعوة ظريف.. قراءة مختلفة

دعوة ظريف.. قراءة مختلفة

28 مارس 2018
+ الخط -
أثارت مقالة وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، "نحو نموذج أمني جديد في المنطقة" (العربي الجديد: 20 /3 /2018)، ردود فعل مثقفين عرب، سوريين بشكل خاص، ودفعتهم إلى كتابة مقالات ناقدة، حيث كتب كل من بشير البكر "نقاط نظام على "إنشائيات" الوزير ظريف" (العربي الجديد: 21 /3 /2018)، وعبد الرحمن الحاج "رداً على ظريف: لماذا الأمن لا السياسة مدخلاً للاستقرار؟" (العربي الجديد: 22 /3 /2018)، وحيّان جابر "دعوة ظريف.. النظام الإيراني أكثر وضوحاً" (العربي الجديد: 23 /3 /2018)، ومحمود الريماوي "طهران والعالم العربي.. الأمن امتداد للسياسة" (العربي الجديد: 24 /3 /2018)، مالت جميعها إلى السجال السياسي، من دون بحث في خلفيات المقالة/ الموقف، وتوقيتها، ومن دون طرح مقترحات لحل الخلاف العربي - الإيراني إذا استثنينا قول الريماوي: "علما أن الحاجة تظل قائمة من أجل إقامة علاقات طبيعية مثمرة مع الجار الإيراني على قاعدة الاحترام المتبادل وتنمية المصالح المشتركة، وتعزيز أوجه التعاون، وذلك في حال نظرت إيران إلى "نفسها" باعتبارها دولة طبيعية، لا مطامع لها خارج حدودها، وتمتنع عن التدخل في شؤون الدول والمجتمعات الأخرى، خصوصا العربية والإسلامية منها".
لم تأت مقالة ظريف من فراغ، ولا تعبيرا عن ترف سياسي، بل أتت كرسالة سياسية أراد بها كاتبها، وهو المكلف بالتعبير عن السياسة الخارجية لبلاده، احتواء تبعات مناخ سياسي إقليمي ودولي مضاد لبلاده، وقطع الطريق على خطواتٍ عمليةٍ أطلت نذرها أخيرا، إنْ عبر ترويج تشكيل تحالف إقليمي يضم دولا عربية وإسرائيل، هدفه مواجهة إيران، أو لجهة التصعيد 
الأميركي الإسرائيلي الذي عكسه إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في لقائهما أخيرا في البيت الأبيض، توافقهما في شأن الحرب ضد إيران، وتداول سيناريوهات لحرب إسرائيلية ضد إيران، أو لضربات للمواقع الإيرانية بالقرب من الجولان السوري المحتل، وفي مناطق سورية مختلفة حول دمشق ونواحي تدمر وحلب، وإجراء مناورات أميركية إسرائيلية مشتركة، خطط لها لتماثل صد هجوم تقوم به إيران على إسرائيل من الأراضي السورية واللبنانية؛ وقول ضباط أميركيين وإسرائيليين إن مناوراتهم المشتركة الجارية حالياً تظهر استعدادهم "لمواجهة أي تهديدات ناشئة في الشرق الأوسط"، وتأكيدهم على مشاركةٍ أميركية في أي مواجهة بين إسرائيل وإيران؛ قال قائد القوات الجوية الإسرائيلية، الجنرال زفيكا حاييموفيتش "يمكننا استدعاء القوات الأميركية في أي نزاع مستقبلي، إذا اقتضت الحاجة". وأكّد قائد القوات الأميركية في المناورات المشتركة، الجنرال ريتشارد كلارك "سنكون جاهزين، وكبار قادتنا سيلتزمون في حال طلبت الحكومة الإسرائيلية". هذا وكانت وسائل إعلام غربية قد نقلت نبأ إبلاغ الروس والنظام السوري "أن واشنطن ستدعم إسرائيل في أي مواجهة مع الإيرانيين". وقد عزّزت التغييرات التي جرت أخيرا في الإدارة الأميركية، بتعيين مايك بومبيو وزيرا للخارجية وجون بولتون مستشارا للأمن القومي، المعروفين بعدائهما لإيران ونزوعهما إلى التدخل واستخدام القوة في العلاقات الدولية، مخاوف إيران من نزعة الحرب التي باتت تسيطر على الإدارة الأميركية. واعتبر المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس النواب الإيراني، حسين نقوي حسيني، الغاية من التغييرات في الحكومة الأميركية، إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهو مناخ سبق وأشاعته وثيقة "استراتيجية الدفاع الوطني" لإدارة ترامب، والتي نشر البنتاغون ملخصها، في منتصف شهر يناير/كانون الثاني الماضي، أن "المنافسة الاستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي الآن الشاغل الرئيسي للأمن القومي في الولايات المتحدة". ما يعني، وفق المحلل السياسي في مجلة فورين بوليسي، جيمس تراوب، "أن القضية العظيمة في المنطقة (الشرق الأوسط) في الفترة المقبلة لن تكون حقوق الأفراد، وإنما التنافس بين الدول".
يواجه النظام الإيراني لحظة سياسية دقيقة وحساسة وعلى عدة صعد؛ بدءا من الوضع الداخلي الذي شهد عدة تعبيراتٍ عكست تنامي رفض النظام الإسلامي القائم، إن عبر الاحتفال بيوم "قورش"، ملك فارس القديم الذي يتردد أنه أول من أصدر إعلانا عالميا لحقوق الإنسان، فيما تعرف بـ "أسطوانة قورش" التي يرجع تاريخها إلى القرن السادس قبل الميلاد، حيث خرج آلاف الإيرانيين يوم 28/10/2016 في مسيراتٍ للاحتفال بهذا اليوم، وقد ردد المتظاهرون الذين احتشدوا حول قبر "قورش"، في باسارغاد القريبة من مدينة شيراز الجنوبية، شعاراتٍ قومية، وانتقدوا سياسة النظام الخارجية بهتافهم "لا غزة ولا لبنان، روحي فدا إيران"، أو في تظاهرات المواطنين في أكثر من مائة مدينة، يومي 29 و30 ديسمبر/كانون الأول 2017؛ وهتافاتهم ضد سياسة النظام الخارجية "اخرجوا من سورية وفكروا بحالنا"، وضد رئيس الجمهورية وضد المرشد الأعلى بشعار "الموت للديكتاتور"، ناهيك عن المناداة بعودة النظام السابق؛ بالمطالبة بعودة ورثة العرش الشاهنشاهي، أو حملة رفض فرض الحجاب التي نفذتها، على الرغم من القمع والاعتقالات، نسوة إيرانيات في أكثر من مدينة إيرانية، ما دفع مسؤولين إيرانيين، بمن فيهم الرئيس حسن روحاني وحفيد الخميني، إلى التحذير من انهيار النظام، في حال تجاهل مطالب الشعب.
أما الصعيد الثاني فتوجه إقليمي ودولي ضاق ذرعا بسياسات إيران وممارساتها، وتدخّلها في شؤون دول الجوار، العربية منها خصوصا، عبرت عنه التحرّكات الدبلوماسية والسياسية، وطرح الملف في مجلس الأمن والبرلمان الأوروبي أكثر من مرة. ولخص وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر، الموقف بعبارة موجزة ومعبرة، قال: "على إيران أن تحدد هل تريد أن تكون دولة أم قضية".
الصعيد الثالث، لعله أكثرها إثارة وسخونة، ملف البرنامج النووي الإيراني، والاتفاق الذي عُقد بين إيران ومجموعة الـ5+1 (الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن: الولايات المتحدة، روسيا، الصين، المملكة المتحدة، فرنسا، وألمانيا) عام 2015، والمعروف باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة"، وموقف الإدارة الأميركية منه، حيث اعتبرته اتفاقا سيئا، وطالبت بإجراء تعديلات عليه، أو أنها ستنسحب منه، برز تأييد إسرائيلي خليجي لإلغاء الاتفاق، خصوصا لجهة استمرار إيران في برنامجها الصاروخي، وخرقها قرار مجلس الأمن رقم 2216، الذي يحرّم عليها تصدير أسلحة، بتزويدها الحوثيين بصواريخ بالستية فاق مداها الـ900 كم.
هذا كله في ظل فشل النظام في مواجهة المشكلات الاقتصادية والمعيشية والخدمية المتنامية، 
حيث الفقر، خصوصا في ضوء قرار الحكومة، في سياق إصلاحاتها الاقتصادية، إلغاء الإعانة الاجتماعية النقدية التي قرّرها الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد؛ والتي كان يستفيد منها 39 مليون إيراني؛ وتوجهها إلى تحصيل 60% من مواردها عن طريق الضرائب، والبطالة؛ وانعكاسها الاجتماعي في بلد معظم سكانه من الشباب، والتلوث بأبعاده من هجوم الغبار والرمال الصحراوية وانحسار الغطاء النباتي والشحّ في المخزون المائي، نظرًا إلى انخفاض معدل هطول الأمطار، وهيمنة قوى سياسية وعسكرية على الدورة الاقتصادية ونهبها ثروة البلاد، عبر حصولها على رواتب فلكية وحصص في ملكيات مصانع وشركات ومشاريع اقتصادية عملاقة.
وفي ندوة سياسية في باكستان، في يونيو/حزيران 1988، تحدث ممثل جمهورية إيران الإسلامية عن الويلات التي جلبتها الحرب العراقية - الإيرانية من الخسائر الكبيرة في الأرواح والممتلكات العامة والخاصة، والمشكلات الاجتماعية والإنسانية الخطيرة التي ترتبت عليها، ما حدا بأستاذنا عصمت سيف الدولة، رحمه الله، إلى استنتاج رغبة النظام الإيراني في وقف الحرب، ما تأكد بعد أقل من شهرين بقبول الخميني وقف إطلاق النار الذي وصفه بـ "تجرّع كأس السم". فهل تنطوي مقالة ظريف في "العربي الجديد"، في ضوء ضغوط المعطيات السابقة ومخاطرها، على توجه إيراني جاد يقطع مع سياسات إيران الراهنة بالانتقال إلى سياسة الدولة، بالتخلي عن السياسة القائمة على التدخل في شؤون دول الجوار ونشر الحروب المذهبية، والانحياز إلى التوافق والتفاهم الإقليمي، بحيث تفتح ثغرة في جدار الخوف من الهيمنة الجيوسياسية الذي ساد طوال العقود الماضية، وأحبط فرص التعاون الإقليمي، أم هي مناورة لخلط الأوراق وضرب خطط الخصوم وإجهاض توجهاتهم؟ وهل ثمّة استعداد عند الجانب العربي لملاقاة توجهٍ كهذا إن حصل؟ نأمل ذلك.