... يدخل الغوطة مبتسماً

... يدخل الغوطة مبتسماً

27 مارس 2018
+ الخط -
أظهرت عدة فيديوهات رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، في مركز كبير للتسوق، منفرداً ومرتدياً ملابس غير رسمية، ويسلِّم بملامح مبتسمة على المتسوقين، ويبادر إلى إمالة رأسه نحوهم، وهم يلتقطون معه صور بكاميرات جوّالاتهم. يبدو المسؤول الشاب مليئاً بالحيوية والنشاط، بشكل يوحي للمواطنين العاديين بالثقة، وتبدو تحرّكاته التي اعتاد عليها الكنديون وسائل مشروعة لكسب قلوب الناس، وخصوصا إذا أظهرت الوجه الحضاري للبلد، وعكست شكل التنمية التي يقدمها هذا المسؤول، وهو يتجول باسماً في الأسواق.
في سورية التي يملؤها الدمار، يحاول بشار الأسد الذي يكبر جاستن ترودو بخمس سنوات، أن يقوم بفعل مماثل. وعلى الرغم من أن سورية لا تحوي مراكز تسوق ضخمة، إلا أن الأسد ركب سيارة رياضية، واخترق بها شوارع دمشق، متحرّراً من ربطة العنق، وبمساعدة "كاميرا مان" يجلس إلى جانبه، يصور ما يقوله وما يفعله، وصولاً إلى بقعةٍ دخلتها قواته عنوةً في الغوطة الشرقية. وقف بشار الأسد وسط الخراب، وعلى أكوام الرماد، مبتسماً للجنود نحيلي الأجساد، ومسلماً نفسه لعدسات جوالاتهم لالتقاط "السيلفي" معه. أحد الجنود الذين لا يملكون كاميرا اقترب بوجل من الرئيس المزهوّ بانتصاره وقال له، بينما الكاميرات تسجل: سيدي الرئيس: أبي وأخي في السجن منذ مدة طويلة، وأنا جندي منذ خمس سنوات.
كانت منطقة الغوطة الشرقية قبل شهور تخضع لحصار محكم، يَمنع دخول أي شيء إلى من يعيشون فيها، وهو الحصار نفسه الذي طُبِّق، في السابق، على داريا، وقبلها على حلب، وعلى مدن وقرى أخرى، وكان النظام في فترات متقطعة من الحصار يرسل مندوبيه مع وجهاء وزعماء محليين، وأحياناً رجال دين، لتليين موقف المقاتلين وإقناعهم بالاستسلام، في الوقت الذي يرسل فيه معدّاته الحربية، للقصف من بعيد، بكل الوسائل التي يملكها. يضمن الراعي الروسي والممون الإيراني للنظام الدعم الكامل، وعند التأكد بأن كل من في الداخل وصل إلى مرحلةٍ من الجوع تدفعه إلى تناول الأعشاب وأوراق الشجر، يرسل الأسد قائده العسكري المفضل، سهيل الحسن، لينفذ خطته التقليدية، بتقسيم القطاع المحاصر إلى أجزاء صغيرة، مع المحافظة على الحصار المطبق، ومن دون أية هوادة أو تكاسل في إلقاء الحمم، وصولاً إلى استسلام الكتائب المعارضة، ومن ثم مشاهد قوافل الحزن تخرج من المكامن المحاصرة، وهي القوافل نفسها التي كانت مادة المظاهرات الكبرى والمبكرة في سورية.
الرئيس الذي يجول بين الجنود، ومعه كبار الضباط، لا يسمح للمدنيين "الذين حرّرهم" بالاقتراب منه، يهزّ رأسه بلطف للأصوات التي تقول إنها تفديه بالروح والدم، ويزيد اتساع ابتسامته عندما تأخذ الكاميرا كادراً أكبر، يظهر مزيدا من الحطام. الحطام الذي كان عنواناً للسنوات السبع الماضية، وكشف طريقة النظام في الحكم وممارسة السياسة، فالأسد على الرغم من مظهره الحضاري وسيارته الرياضية، كان مجرد زعيم مليشياوي الطابع، عقد صلاتٍ فوق نطاق الدستور والقانون مع دول لها مطامع واضحة في سورية، ومارس ما يشبه البيع لقطاعات واسعة ومؤسسات سورية، تخلى عنها بسهولة لصالح "المجهود الحربي" الذي يشنّه على جزء كبير من الشعب السوري، ويتوقع عائداً يضمن له مزيداً من الدورات الانتخابية الناجحة.
يؤكد النظام السوري على رغبته في الهيمنة المطلقة، وإن على أنقاض المدن والسكان. وعلى الرغم من ارتداء رأس النظام الملامح الباسمة والملابس غير الرسمية، إلا أن مشهداً موازياً لأحد أعضاء مجلس الشعب، المقرّبين من السلطة، وهو يقف على بوابة شاحنةٍ محملةٍ بلفافات صغيرة من الطعام البائس، يقوم بتوزيع ما في داخلها على المجاميع التي جرى تجويعها قصداً، وصولاً إلى هذه اللحظة، يفضح وجه النظام الوقح الحاقد على السوريين الذين هتفوا يوماً ملء حناجرهم ضد وجوده في السلطة.