فيلسوف وأرانب

فيلسوف وأرانب

27 مارس 2018

أحمد ماضي.. البحث عن "قفص مريح" للأرانب

+ الخط -
ما الذي يجمع بين فيلسوف ورهط من الأرانب؟
استوقفني هذا السؤال، مطولًا، منذ وقعت عيناي على نداء "الاستغاثة" الذي أطلقه عميد كلية الآداب السابق في الجامعة الأردنية، الدكتور أحمد ماضي، في "فيسبوك"، يستنصح فيها أصدقاء صفحته أن يدلّوه على "قفصٍ مريح" لأرانبه التي يربيها في بيته، بحيث تستطيع أن "تسرح وتمرح على راحتها" داخل القفص.
كان يمكن أن يمر المنشور عاديًّا من عميد كليةٍ جامعيةٍ متقاعد يحاول أن يملأ وقته الفائض بـ"الأرانب" وشؤونها، لو كان الناشر رجلًا آخر سوى الدكتور ماضي، الذي كنت أعرف ميوله اليسارية سابقًا، كما أعلم جيدًا، مبلغ "شراسته" في الدفاع عن معتقداته، وخصوصا ما يتصل منها بحق الإنسان في التعبير والتفكير. ولربما لهذا السبب، انحاز للفلسفة ودراستها في الاتحاد السوفييتي سابقًا، ولربما، أيضًا، اختار العمل العام سبيلًا لتحقيق غاياته، فكان رئيسا لرابطة الكتاب الأردنيين، وناشطا في جمعيات نقدية وأدبية.
قبل ذلك، لم تسترعِ انتباهي الصور التي كان ينشرها صاحب كتاب "ساطع الحصري: العلمانية والدين"، وهو يطعم أرانبه أوراق الخس، ويبدي حدْبًا غير عادي عليها، انطلاقًا من نظرته الفكرية الشمولية التي لا تفرّق بين إنسان وحيوان، إذا تعلق الأمر بالحنوّ والاهتمام، وكنت على قناعةٍ بأنه يصدر عن انسجام داخلي عميق بين نظريته وواقعه، فهو مثقفٌ عضويٌّ قبل كل شيء، ومشتبك بالحياة وكائناتها حد التماهي والذوبان. لكن أن يصل الهاجس إلى البحث عن "قفص أوسع"، فذلك ما أثار انتباهي، ليس إلى الدكتور ماضي تحديدًا، بل لما يختصره هذا الفيلسوف اليساري، بشخصه ومواقفه، من تحولاتٍ ترمز إلى تلك الأزمة العميقة التي عانى منها اليسار العربي، في مجمله، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
ولو حاولت أن ألج حيرتي من باب "الفلسفة" التي يتقنها الدكتور ماضي، لتساءلت: "هل تكمن المشكلة في الأرانب أم في القفص؟".. مستذكرًا هنا محاولاته في المقاربة بين العلمانية والدين، للخروج بصيغة عصرية تعالج تلك الإشكالية التاريخية المستفحلة بين طرفي المعادلة، والتي لم تستطع حسمها كل محاولات التنوير العقيمة التي مرت على المنطقة.
وتساءلت أيضًا: هل يصدر الدكتور ماضي من قفص النظرية الاشتراكية الذي ضاقت قضبانه بعد انهيار قلعته العظيمة مع انهيار الاتحاد السوفييتي، فراح يبحث عن "قفصٍ" أوسع يتيح له التمرّد على مواقف "الرفاق" الذين يحشرون أنفسهم في "القفص الروسي"، ظنًا منهم أنه الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي ونظريته، فيؤازرون الطغاة العرب على حساب شعوبهم، كموقفهم المساند طاغية دمشق، بل ذهبوا مذهبًا أقبح من ذلك، بمهاجمتهم ثورات الربيع العربي كلها.
تلك المواقف "اليسارية" العربية الجديدة صدمت الدكتور ماضي، المنحاز للإنسان قبل النظرية، وهو ما كان يظهر في منشوراته على "فيسبوك"، وآية ذلك أنه كان يشجب، بصريح العبارة، موقف النظام السوري من شعبه، ومن مجازره المرعبة، ولم يكن يتورّع عن إدانة روسيا كذلك، ومؤازرتها بشار الأسد، وملالي إيران، على الضد من آمال الطبقات المسحوقة و"البروليتاريا"، التي كان "اليساريون" العرب يتغنون بها سابقًا.
وبالطبع، كان الدكتور ماضي، يشهر مواقفه تلك إلى جانب صور "الأرانب" التي ينشرها من آنٍ إلى آخر، فهل يمكن القول إن صاحبنا بات ينظر إلى يساريين عرب كثيرين كـ"أرانب" لا تستطيع التمرّد على أولياء نعمها في دمشق وموسكو، فحشرت نفسها في ذلك القفص الضيق من الولاءات، وخدعتها شعارات "التحرير" و"الممانعة" التي لم تخرج، هي الأخرى، من "قفص الكلام" الرخيص، فآثر صاحبنا، في نهاية المطاف، بدافع الحرص على رفاق الزمن الغابر، أن يبحث لهم عن "قفص" أزيد اتساعًا؟ أم إنه اكتشف متأخرًا أن كل نضالاته السابقة لتنوير شعوبه العربية لم تكن إلا محاولاتٍ عقيمةً لتوسيع "القفص" حسب؟
وددت لو أقول للدكتور ماضي إن المعضلة ليست في اتساع القفص أو ضيقه، بل في القفص ذاته، ومن ثمّ فكل محاولاته برؤية كائناته المحبّبة "تسرح وتمرح" داخل "القفص" لن يحالفها الحظ ألبتة.

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.