في تنفير التونسيين من الديمقراطية

في تنفير التونسيين من الديمقراطية

27 مارس 2018
+ الخط -
لو كان في تونس مؤسسة عسكرية مخترقة سياسيا، كما هو الشأن في دول عربية عديدة، لتدخل الجيش التونسي هذه الأيام، وسحب البساط من المدنيين الذين أثبتوا بالدليل أنهم غير مهيئين للحفاظ على الدولة ومؤسساتها. والأخطر أن هناك من يدفع نحو هذا الاختيار الانتحاري، بل وأيضا لو حصلت هذه الفرضية الخطيرة، لوجدت جمهورا واسعا يدعمها، ويرحب بتولي العسكر السلطة.
مع ذلك، يعتبر من أهم ما يحصن الانتقال الديمقراطي في تونس أن جيشها مصرٌّ على البقاء على الحياد، وأن يتفرّغ لحماية الحدود والثغور والدفاع عن الأمن القومي، بكل قوة وحماسة وانضباط.
ما حصل في البرلمان يوم السبت الماضي كان مأساةً بكل ما تتضمنه الكلمة من مرارةٍ وخيبة أمل. تعطلت المؤسسة التشريعية بالكامل، بسبب الفوضى التي سادت داخل القاعة الرئيسية وما حولها. أصوات مرتفعة، وسباب واشتباك بالأيدي، ومحاولة إنزال رئيس البرلمان من مكانه، وتهديد بالقيام بعملية انتحارية بدون حزام ناسف. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تابع التونسيون تلك الجلسة البائسة بشكل مباشر عبر القناة الثانية. غمرتهم الدهشة، وملأت نفوسهم المرارة والخيبة والخوف على بلادهم المرتجفة. لم يستوعبوا كيف يستهزئ نائبٌ من المعارضة برئيس الحكومة، مهما كان أداء هذا الأخير. لم يفهموا ما يحصل بين هؤلاء النواب الذين انتخبوهم بعد جهد ومشقة، وكلهم أملٌ في أن يُخرج هؤلاء البلاد من مأزقها الحاد، وذلك بناءً على وعودهم وتعهداتهم، فإذا بهم يكتشفون، بعد فوات الأوان، أنهم أخطأوا الاختيار، وصوتوا أحيانا لملاكمين (حتى لا نستعمل مصطلحات أخرى)، يحاولون إدارة خلافاتهم بالأيدي، وليس بالحجة والدليل والقانون.
الذين يسعون إلى تنفير التونسيين من الديمقراطية، بما فيها من تعدد أحزاب وحرية رأي، كثيرون في تونس، وإن كانوا يختلفون في انتماءاتهم ومصالحهم وهوياتهم ومساراتهم وأدواتهم. منهم من هو غير ديمقراطي بالسليقة، يؤمن بعنف الدولة منهجا وحيدا للحكم وإدارة الشأن العام. ومنهم من فقد الكثير، بعد أن انهارت السلطة القديمة، ورحل حاميها الأساسي، زين العابدين بن علي، فتحولوا إلى أيتام يعملون صباح مساء على توحيد صفوفهم واسترجاع ما فقدوه، يوم أن ثار الشعب عليهم. وهناك لصوص محترفون لا يهمهم الشأن السياسي، لهذا تراهم يعمقون الفوضى، حتى ينشغل الجميع عن شبكات الفساد التي يرعونها، ويوسعون من دوائرها.
وهناك هواة السياسة الذين ما أن توفرت لهم الفرصة، حتى شرعوا في ممارسة قيادة الشأن العام بطريقة سطحيةٍ، وأحيانا بائسة، في انتظار أن يستوعبوا تقاليد الحكم.
هناك أيضا من أصبحت المناورة جزءا أساسيا من استراتيجيتهم، حتى خلطوا بين المبادئ والوسائل، فقدوا ثقة المواطنين، وكادوا يستهلكون رصيدهم الشعبي.
هناك من سمحوا لأنفسهم بأن يمارسوا سلوكا "شعبويا"، اعتقادا منهم بأن الجماهير ستتفاعل إيجابيا مع صورة من يتحدّى كبرياء المسؤول، ويمسح به التراب. لكن بدل أن يقدموا صورة جذابة تجعل التونسيين يعتزون بالحريات التي يتمتعون بها حاليا، إذا بهم يشعرون بالخوف، ويصبح كثير من هذه الجماهير يتمنون عودة من كان وصيا عليهم، وينغمسون في نقاشٍ مخيفٍ معادٍ للديمقراطية والديمقراطيين. إنها الخيانة بعينها. أي خيانة الديمقراطيين المبادئ أو الشعارات التي رفعوها وناضلوا من أجلها.
سيقال إن مثل هذه الممارسات تحصل حتى في الديمقراطيات القديمة، وأن النخب السياسية في تونس بصدد التعلم واكتساب الخبرات الضرورية، للوصول إلى مرحلة النضج والتعايش. لكن هذا القول مردودٌ على أصحابه. لأن الديمقراطية التونسية ناشئة، ما يفرض على الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الارتقاء بوعيهم، من أجل الحفاظ عليها، وإنضاجها، وإدارتها بالحكمة والحذر والصبر والعناية. الديمقراطية التونسية أشبه برضيع يحتاج للرعاية الكاملة حتى يصلب عوده، ويقف على رجليه، ويستوعب التحديات التي تحيط به. وإذا كانت النخب لا تملك هذه البيداغوجيا، ولا تريد التعلم والصبر والتنازل، فستنطبق عليها المقولة الشهيرة التي ردّدها أحد السياسيين سابقا "نكبتنا في نخبتنا".
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس