لماذا سيف، قمر، أقوى من موبايل وكيبورد؟

لماذا سيف، قمر، أقوى من موبايل وكيبورد؟

26 مارس 2018

(عبد الله الحريري)

+ الخط -
ربما لم نقرأ شاعراً، أو كاتباً، حيَّرته الكلمات، وتمعّن في الأزمنة والمعاني المتغيرة التي تحملها، مثل بورخيس. أنا لا أعرف. قد يكون هناك مثل هذا الشخص. ولكن لا يهمني أمره الآن، ما دام بعيداً عما أنوي قوله هنا. يخبرنا بورخيس عن كاتبٍ مواطنٍ له (لعله شاعر أيضاً) رأى أن الاستعارات قديمة، ولا تجديد فيها، فعكف على وضع كتاب/ معجم (أتخيَّل) يضم هذه الاستعارات التي قد تناسب أزمنتنا. لكن أحداً لم يستخدم هذه الاستعارات الجديدة. فالمرأة/ الوردة/ الرقَّة/ الفراشة/ النهر/ الزمن يصعب استبدالها بـ: المرأة/ لومبرغيني (اسم سيارة)، على الرغم من أن الأخيرة قد تكون أكثر انسياباً في هندستها ودقة انحناءاتها ورشاقتها من الوردة/ الفراشة، وقد تكون أكثر تدفقاً (على الأرض) من نهرٍ تتبعثر مياهه هنا وهناك.
في كتابه "صنعة الشعر"، يورد بورخيس هذا البيت الشعري، للشاعر الأميركي إي إي كمينغز: "وجه الربّ الرهب أكثر لمعاناً من ملعقة". يعلِّق بورخيس، بألمعيةٍ ساخرة، قائلاً ما معناه: إن الشاعر قد فكَّر بوجه الربّ كسيف، ترسٍ، أو شمس، ولكنه قال لنفسه، مستدركاً: كلا، فأنا شاعر حديث لذلك سأدخل كلمة ملعقة (دليلاً على اللمعان) في شعري!
لم يبتعد السياب عن كمنغز، حين قال: عيناك غابتا نخيل ساعة السحر. كان يمكن له أن يقول: عيناك نجمتان. لكنه لم يكن يقصد لمعان العينين، ولا بُعدهما، بل غموضهما، وربما ذلك الاخضرار القاتم/ الغامض، بكل تأكيد، الذي يطبعهما. إذ لا شيء يدلُّ على ما فيهما من استعصاء/ امتناع/ انعدام دلالة/ كغابة نخيل في تلك الساعة التي لم يبنْ فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
هل نكون أكثر "حداثةً" عندما ندخل "لومبرغيني/ أو موبايل/ أو أياً من أدوات عصرنا الراهن في القصيدة/ كما يفعل بعض الشعراء العرب الجدد الذي يفكِّر أن "اليوميّ" يقطع مع الاستعارات "القديمة"، وينبغي عليه أن يمثّل لحظتنا الراهنة التي نكتب فيها، وما تنطوي عليه من مفرداتٍ متداولة؟ هل تكمن "الحداثة" أو "الانتماء إلى العصر"، في الكلمات أم في المعاني؟ في المعجم "اليومي"، أم في الدلالات؟
هناك شعر عربي/ وربما أجنبي/ يستخدم معطيات الحياة الراهنة، وما تحفل به من تكنولوجيا: فيمكننا أن نعثر على مفرداتٍ قادمة من عالم فيسبوك/ أو تويتر/ حتى إن هناك ما يسمى "الشعر الرقمي"، نزولاً عند سلطة "العصر الرقمي"/ وتكنولوجيا المعلومات.
لقد أعاد الأخوان رحباني، وفيروز، تسجيل أغنية "نحنا والقمر جيران" بعد الهبوط البشري على القمر، والصور التي بثّتها البعثة الفضائية الأميركية من سطحه، فتبيَّن لنا أنه أكثر عراءً وخشونةً ووحشة من أرضنا. غير التعليق على هذا "الاكتشاف" لم يفعل الرحابنة. لم يعتذرا عن الرومانسية التي جعلت القمر جاراً، وله بيتٌ يطلع منه، ويعرف مواعيد العشاق.
القمر كجارٍ لنا ليست استعارة شائعة. القمر كقنديلٍ أكثر شيوعاً. يمكن القول إنها استعارة محدثة. لكن "شبهتها" الرومانسية تجمعها بالقمر كجارٍ لنا. ولن تغيِّر معرفتنا بجيولوجيا القمر وتكوينه، وخشونة الصور التي أرسلت من هناك، شيئاً في رقّته في المخيلة البشرية، ولا باعتباره مصدراً للضوء، على الرغم من أنه عاكس له فقط.
لماذا لا نزال نستخدم هذه الاستعارات "القديمة"، قِدَم التعبير البشري نفسه؟ ولماذا لا تزال كلمة "سيف" أو "قمر" تغري القصيدة، في الوقت الذي لم يعد هناك سيف يُستخدم، وتكشَّف لنا القمر عن صخور ووديان مقفرة؟ لماذا تمدّنا الطبيعة بمفرداتٍ في وصف المرأة، أو الحب، أكثر مما تمدّنا به المدينة الحديثة وتكنولوجيا العصر؟ هل يتعلق الأمر بنوستالجيا أم باغتراب بشري كبير؟
سألني، مرةً، كاتب أوروبي: لماذا تكثر الاستعارات الحربية في قصائدي (التي قرأها مترجمة)، مقترنةً، خصوصاً، بالمرأة؟ لم أجبه في حينه. لكني أجبته في ما بعد:
رماح
يستغرب الناقد الأجنبي مجازاتي الحربية في قصائد الحبِّ.
حسنٌ.
أنا لا أقول إنَّ الحبَّ حربٌ، ولا سرير الغرام ساحة معركة. المجازات عشر لا غير. ولا جدوى من مجازاتٍ جديدةٍ لا تذهبُ مثلاً. فمن سيتخلى عن تلك التي عملت لدينا، بإخلاص، عشرات القرون وأثبتت فعاليتها دائماً. تعال، أيها الناقد الأجنبي، إلى هذا المقهى المتوسطيِّ الذي أجلس فيه الآن تحت شذرات الخريف الذهب، لترى كيف تلمع زنود النساء السُمر كرماح إسبارطة!
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن