عن سيلينا وعينيها الحائرتين

عن سيلينا وعينيها الحائرتين

26 مارس 2018

(صفوان دحدول)

+ الخط -
أي صلابة روحٍ وقوة احتمالٍ وشجاعةٍ عز نظيرها، تحلت بها الأم الشابة المكلومة في لحظة باهظة، كي تحدّق في عيني صغيرتها سيلينا الحلوة، أشطر الأولاد في الصف الرابع، الجميلة ذات النظرات الحائرة الحزينة، كي تبلغها حابسة دموعها كاتمة وجعها، مدّعية التماسك أن بابا إسماعيل غادر إلى غير رجعة ومن دون وداع. لم يسافر إلى بلد بعيد، سيعود منه محملا بالهدايا. لم ينشغل عنها بمهامه طبيبا متفانيا في مستشفىً في مأدبا، كرّس طاقتة لمساعدة الفقراء وإغاثة الملهوفين، غير معني بجمع ثروة وتحقيق مكانة اجتماعية، طبيب استثنائي من طراز فريد، لا ينتمي إلى نموذج الأطباء المؤسف والسائد الذي يتعامل مع المريض باعتباره ملفا طبيا ومصدر رزق من دون إبداء مشاعر تعاطف واكتراث من أي نوع، نموذج متفرد مختلف، يحلف المرضى بحياته، ويدعونه الدكتور صاحب الوجه البشوش، وتزعم نساء بسيطات أنهن خالاته في حال غيابه عن المستشفى، كي يحظين بعناية طبية أكبر.
وحين يعود من إجازته يؤكد، في تواطؤ إنساني مشوبٍ بالدعابة، مزاعمهن البريئة، كيف يمكن لسنواتها التسع استيعاب ذلك الهول كله، وقبول الحقيقة الباردة المجردة القاسية المؤلمة: أي امتحانات عسيرة علينا مواجهتها في هذه الحياة المخيبة للأمل؟ ولماذا لا يكون الموت أكثر رأفة، فيمنح الآباء وقتا كافيا لإحكام الأغطية فوق أجساد صغارهم المرتعدة بردا في ليالي الشتاء الموحشة، واصطحابهم إلى مدارسهم في الصباحات، وحضور اجتماعات أولياء الأمور، والتذمر من شدة تعلقهم بأجهزتهم الإلكترونية؟ لماذا لا يغض النظر عن مهمته البغيضة في حصد أرواح غضة ما زال لديها الكثير لتمنحه، أرواح طيبة تتقن العطاء بلا منة، تعشق الحياة، وتثبت فيها حضورا نوعيا؟
كانت أمسية خارج نطاق الزمن بالنسبة إلى عائلته وأحبائه الكثيرين الذين أموا بيت العزاء بكثافة، وكل يحمل في جعبته ذكرى وقصة وموقف تصب كلها في تأكيد صفات الطبيب الفلسطيني الأردني، إسماعيل البس، الذي داهمته نوبة قلبية حادّة أسقطته أرضا، فيما هو منهمك في إنعاش مريض. وبحسب شهادات زملاء، فإن إسماعيل بذل جهودا كبرى في إنقاذ مريضه الذي نجا من الموت، بسبب تفاني هذا الطبيب الإنسان النبيل الذي يأخذ عمله على محمل إنساني جاد، يصل إلى حد التضحية بالذات. ولا شك في أنه أحس، وهو الطبيب البارع، أن ثمة خطبا ما ألم بجسده، لكن إحساسه بالمسؤولية طغى على مخاوفه الخاصة، فأجل الاعتناء بنفسه إلى حين التأكد من سلامة المريض أولا، وفوّت على الأطباء فرصة علاجه. الصادم أن المستشفى الذي يعمل فيه إسماعيل في مدينة مأدبا التي تبعد عن أقرب مستشفى خاص في العاصمة عمّان نصف ساعة، تتضاعف في لحظات الذروة المرورية. وشأن سائر مستشفيات المملكة الحكومية، لا تتوفر فيه إمكانية العلاج بالقسطرة، وهو الإجراء الطبي السريع والبسيط الذي قد يصنع في لحظة الفرق بين الحياة والموت، وينقذ أرواحا من موت عبثي سببه شح الإمكانات الطبية.
ستمر سنوات طويلة، ويموت فقراء كثيرون في مناطق نائية، بسبب إخفاق الحكومات المتعاقبة ضمن منظومة قهر الإنسان، والحط من شأنه، وحرمانه من أبسط حقوقه الإنسانية في تلقي العلاج. وستكبر سيلينا وأخواتها قبل أن تدرك قيمة العمل البطولي الذي قام به والدها الراحل. وسوف تطرح أسئلة بسيطة مشروعة عن مبرر غياب والدها عن حفل تخرجها ويوم زفافها. ولا أظن أن أيا من المسؤولين المتكرشين، مدخني السيجار الكوبي الفاخر، أصحاب المزارع والقصور الفارهة والحسابات السرية في بنوك سويسرا الذين يلجأون، في العادة، إلى الخارج طلبا للعلاج والعناية الطبية المناسبة عند تعرضهم إلى أي وعكة صحية، مهما كانت تافهة. لا أظن أن أيا منهم سوف يمتلك الحد الأدنى من النزاهة والشجاعة، كي ينظر في عيني سلينيا وأبناء جيلها، معترفا بتقصيره الكبير والفادح بحق مواطنين بات مطلوبا منهم، في زمن شديد الاعوجاج، ترشيد استهلاكهم في أرغفة خبز سيئة المواصفات، يغمسونها بالضنك والقهر. الرحمة لروح طبيب الفقراء، إسماعيل البس، وكل العزاء لك، أيها الوطن غير السعيد.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.