الأردن والجغرافيا المستبدة

الأردن والجغرافيا المستبدة

25 مارس 2018
+ الخط -
لا أحد يستطيع تخيل أو توقع الأسس التي رُسمت بناءً عليها الجغرافيا السياسية لدولنا المعاصرة، ولا موازين القوى الحقيقية التي كانت السبب المباشر وراء هذه الصيغ من الحدود التي رسمت ملامح وشكل الدول. ولكن ما يمكن التأكد منه أن ثمة دولا حازت على قدر معقول من المواصفات والعناصر التي يعوض بعضها عن بعض، فإن غاب شيء سدّ محله شيء آخر، الطبيعة والبحر والثروات والموقع الجغرافي المميز، وكان التبادل بين تلك العناصر سمة مميِّزة لأقطارٍ كثيرة، ولكن ثمّة دولة واحدة فاتها قطار تلك التمايزات وفوائدها، لن يجد أحد صعوبة في توقعها، فهي تقع على تخوم الشام وفي أحضان باديتها، ولا تفلت، في جزءٍ مهم منها، من لهيب الصحراء، ويضاف إلى ذلك موقعها الوسطي في منطقةٍ يتجاذبها كل شيء إلا الاستقرار، فمنذ وجدت الدول فيها لا تزال ترزح تحت وطأة الصراعات والنزاعات وحالات من العنف المتبادل بين جميع ساكنيها، فالحكاية بدأت، منذ النشوء، عسيرةً، وشابتها الشكوك، ورافقتها الاتهامات، ورُسمت حولها هالة من الأسطورة، ربطتها بأباطرة القوة الدولية. ولكن أين الحقيقة من ذلك؟ فقد أضفت ولادة مشروع استيطاني توسعي، بموجب وعد غير شرعي (الوطن القومي لليهود)، بالتزامن مع الولادة الأردنية، حالة الريبة والتهمة بالتآمر التي رافقت الدولة طوال عمرها، أضف إلى ذلك ترافقه مع بدء ترسيخ دعائم دولة آل سعود وميلاد مملكتهم، وما يحمله التاريخ السابق المحمل بعدم الثقة بين آل سعود والهاشميين على خلفية الأحقية في حكم الحجاز، والتي تمت تسويتها لاحقاً، وفي الشمال حيث سورية، والتي ترى أن هذا الكيان المقتطع جزء منها، ما أحدث حالةً مستدامةً من النظرة من فوق، وكذلك شعورا دائما من الريبة والشك. أما الشرق، حيث العراق، فقد كان يرى أن المناطق الغربية جزء من متواصلة الجغرافي والتاريخي.
رسمت تلك العوامل حدود السلوك السياسي الداخلي والخارجي للمملكة الوليدة، ففي الخارج 
رسم نمطاً من التحالف مع قوى دولية وعظمى، كي يواجه الاحتمالات المتزايدة للتهديدات من داخل الإقليم من دولٍ أقوى واًكثر ثراء. وفي الداخل، أقام شبكة من التضامنات الاجتماعية على مستويات متعدّدة وآمنة، كي يتغلب على شُح الموارد والهجرات المتزايدة بعد كل صراع، فرض ذلك أن يكون للقوة الخارجية دور حتمي متوافقة مع تقديم مزايا داخلية للفئات المتضامنة مع الحكم على شكل منافع مادية أو سلطوية، لما لذلك كله من تبعاتٍ تعتمد عليها السياستان، الداخلية والخارجية.
تتعامل الدولة الأردنية الآن مع خمسة صراعاتٍ كبرى ونزاعين، وجُلها على حدوده، الأول والأهم والمستدام هو الصراع العربي الصهيوني، والذي يُعتبر أردنياً بامتياز، لما له من أثرٍ يكاد يكون وجوديا على الدولة الأردنية. إنه يمر الآن بلحظة حسم أو محاولةٍ للحسم، تفرضها إدارة تفتقر إلى الفهم، ولو السطحي، لهذا الصراع، وتريد أن تفرض حلاً تحت بند أو مُسمى صفقة القرن. وبموجب المعلن من هذه الصفقة، فإنها تتجاهل حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، ما يضع الاْردن أمام خيارات توطين مليون لاجئ فلسطيني، الأمر الذي سيرتب تغيراتٍ ديمغرافيةً واقتصادية خطيرة، عدا عن أنها تمسّ بحق هؤلاء اللاجئين في تقرير مصيرهم، كذلك تمسّ هذه الصفقة بقضية ولاية الأسرة الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس الشريف، بعد أن اعترفت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، ما سيضع الاْردن في موقف شديد الحساسية، كذلك سوف تمس هذه الصفقة بالعلاقة الأساسية بين الضفة الغربية والأردن، وهي علاقة ممتدة وجذرية، وسوف توضع على المحك، هذا مختصر على صعيد الصراع الأول، وأيضاً يحوي هو نفسه نزاعاً بين السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة حماس، ما يرتب مصاعب إضافية في التعامل مع صراع ونزاع في الجبهة نفسها.
أما الصراع الآخر فهو سورية، فالحرب الدائرة منذ سبع سنوات، والتي لا تبدو لها نهاية قريبة، الثابت أردنياً أنها وضعت الاْردن في مواجهة مأزقين، وربما خطرين وجوديين، المنظمات الإرهابية بكل أشكالها، وما تفرضه من مخاطر جوهرية على الأمن الوطني، والوجود الإيراني والمليشيات التابعة له، بمحاذاة الحدود، وهو خطر جديد يحتم التعامل معه ليس بشكل مباشر، بل بفتح تحالفاتٍ عابرة للإقليم، يمكنها لجم التهديد الإيراني، أو الحد من مخاطره، وهو تهديد لم يكن له وجود، لو استطاع المجتمع الدولي التغلب على التعنت الروسي في إيجاد حل للصراع في سورية. ويضاف إلى الاًزمة السورية مأزق اللاجئين الذي شكل عبئاً أخلاقياً وديموغرافياً واقتصادياً، وليس في الأفق حتى الآن حل يستطيع أن يعوض حجم التضحيات التي قدمها الشعب السوري.
أما الصراع الثالث فهو في العراق، وحرب هذا البلد الطويلة مع نفسه، ومع قوى الاٍرهاب. وهو صراع ألقى على الاْردن خطرين وجوديين، الاٍرهاب ووجود إيران لأول مرة جارا ثقيل الظل، من خلال نفوذها المتصاعد في العراق والمنطقة، ما رتب على الاْردن مصاعب لا حصر لها مع شريك اقتصادي وسياسي سابق.
الصراع الرابع في الخليج العربي، يضاف إليه نزاع خليجي خليجي، ورتب ذلك على الاْردن مصاعب كبيرة في التعامل، من دون أن يناله العتب، نتيجة نصف موقف حاول فيه استيعاب الحرج، ومع ذلك نالته خسائر كثيرة، وهو الآن بات يتعامل مع تداعيات موقفه، لا مع الموقف بحد ذاته. على أمل أن تنتهي هذه الحرب والأزمة في وقت قريب، وهذا هو الرهان الحقيقي كي يتم تفهم نصف الموقف ذاك.
أما الصراع الخامس فهو الحرب الدائرة في سيناء، والتي دفع الاْردن ثمناً اقتصادياً هائلاً فيها، فلم يحن وقت انتهائها بعد، لكي يتخلص من تبعاتها الاقتصادية. وربما هناك صراع بعيد رتب على الاْردن تبعات اقتصادية وهو الصراع في ليبيا، لما له من أثر اقتصادي غير مُصرح به.
إذن، أي بؤس هذا الذي فرضته الجغرافيا؟ لقد علقت القرارات المهمة، وفق مفهوم الخطر الوجودي، والرغبة في البقاء والاستمرارية. وهذا بالضبط أوجد الضرورة لتحالفات مبنية على ضمان الأمن وليس الرخاء، ولن تكون هذه إلا مع قوى عظمى، وبريطانيا والولايات المتحدة هما المثالان الحيان، الأمر الذي يفرض نوعية معينة من التنازلات، تتعلق بمصالح تلك الدول المانحة للأمن. وعلى الجانب الاقتصادي، أوجد شكلاً من الريعية الهيكلية في مجمل منظومات الاقتصاد، والتي اعتمدت على القروض والمساعدات والمنح وتحويلات العاملين في الخارج، لكن إلى متى ذلك؟ فرض هذا السؤال نفسه على المعادلة السياسية والاقتصادية المستجدة، 
فالسياسة كانت تتمحور حول شخص الملك، والذي كان المقرّر الوحيد لها، بالإضافة الى حلقة ضيقة جداً. وكان الاقتصاد وما يزال مرهونا بفريق ضيق جداً مرتبط مباشرةً مع القصر، لكي تتاح له الموازنة الدقيقة بين المتطلب السياسي والاقتصادي الداخلي. وكان يمكن التغاضي عن ذلك كله من الرأي العام، طالما تسطيع تلك القيادات استيعاب الفائض من العمالة داخل القطاع العام من مدني وعسكري، بحيث يمكن بذلك إقناع الرأي العام بأن الاقتصاد ينمو، وما زال في مقدوره استيعاب القوى العاملة. استمر الأمر إلى حين وصل الأمر بالقطاع العام البيروقراطي إلى أن أصبح كالفيل الذي تحمله نملة، يهدد بنسف كل شيء، ما أدى إلى استمرار الاقتراض، واستمرار التنازلات للمؤسسات المانحة. وجاءت لحظة الحقيقة التي استفاق الجميع على هولها، وهي تحميل المجتمع ثمن كل تلك الإخفاقات، وبدأت الساعة تدور.
رفعت الضرائب وكذلك الدعم عن سلع كثيرة، وحُررت الأسعار، وبات المواطن ينام من الطبقة الوسطى ويصحو في الفقر وطبقاته. وقد يملك شخص مصنعاً أو محلاً تجارياً، ويصحو في المحكمة لمزاد أو في السجن لعجز عن السداد. وعلى الرغم من هذه الكلفة الاجتماعية الضخمة، لم تقتنع الدوائر السياسية بأن هذه الأكلاف الاجتماعية، إن لم تترافق بتنازلات سياسية لصالح المجتمع، تمكنه من إدارة العملية الاقتصادية السياسية، فسوف يكون الخطر الداخلي بمثابة قنبلة موقوتة، تهدد الدولة برمتها، طالما أن الدول المحيطة تمر بهذه الصراعات المميتة، والدول المانحة لا تزال تنتظر تنازلات عميقة وخطيرة، ففي حين كان يمكن لهذا التوسط الجغرافي أن يكون نعمةً بلا حدود، فيما لو كانت المنطقة مستقرة، تحول إلى كابوس ونقمة، تستدعي دراسة عميقة لقصة التحدي التي يخوضها الأردن، وكيفية بقائه. بدون شك.. إنها قصة عظيمة.