هذا الجدل في تونس عن الاستقلال

هذا الجدل في تونس عن الاستقلال

22 مارس 2018
+ الخط -
أثارت هيئة الحقيقة والكرامة في تونس جدلاً، بعد نشرها على موقعها يوم 14 مارس/ آذار الجاري بياناً توضيحياً ووثائق أرشيفية وتاريخية، تفيد بأن استقلال تونس، وقد وقّع في شأنه بروتوكولاً، يوم 20 مارس/ آذار 1956، رئيس الحكومة آنذاك ورئيس وفد التفاوض التونسي، الطاهر بن عمّار، بمشاركة الباهي الأدغم والمنجي سليم ممثلين عن الحزب الحر الدستوري الجديد، ووزير خارجية فرنسا، كريسيان بينو، بعد مفاوضاتٍ شهدتها باريس بدأت يوم 27 فبراير/ شباط من السنة نفسها، لم يكن مكتملاً وشابته شوائب كثيرة، حان الوقت للوقوف عليها والنظر في حقيقتها، ما جعل من القرار السيادي للبلاد التونسية قراراً مصادراً، على حدّ تعبير رئيسة الهيئة.
مظاهر الاستلاب السيادي كثيرة، وفق هيئة الحقيقة والكرامة، من ضمنها أن السلطات الاستعمارية الفرنسية سنّت تشريعاتٍ كثيرةً، تعطي الشركات الفرنسية حقوق الحقول النفطية والمقاطع في إطار لزمات أو عقود استغلال أو رخص تفتيش لاستغلال خبايا الأرض، منها عشر شركات ناشطة في مجال استغلال النفط والغاز والملّاحات، ومكّنتها من الديمومة والاستمرارية، ومنحتها امتيازات عديدة تفاضلية واحتكارية غير قابلة للمراجعة والتعديل، بعد تضمين تلك التشريعات في اتفاقيات الاستقلال الداخلي الممضية في باريس في 3 يناير/ كانون الثاني 1955.
احتج مؤرّخون على موقف هيئة الحقيقة والكرامة، الذي يُستشفّ منه أن استقلال تونس كان 
صورياً في جوانب عدة، بأن وثيقة الاستقلال التي يمرّ على توقيعها 62 سنة قد ألغت اتفاقيات الاستقلال الداخلي ونسختها، وهو احتجاجٌ يستند إلى نوع من الزبونية الأيديولوجية والانحياز السياسي منه إلى قراءةٍ علميةٍ عميقة في الوثائق والمعاهدات والبروتوكولات والملاحق المعتمدة. فكيف لبروتوكول الاستقلال الذي تم توقيعه في غفلة من التونسيين، وتحت وقع الصراعات الدامية بين البورقيبيين واليوسفيين، وبين القوى الدولية الصاعدة ونظيراتها التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية، فجاء عامّاً غامضاً في صفحة واحدة، بعد نقله إلى العربية عن النص الأصلي الذي صيغ بالفرنسية، مرقوناً في صفحتين ونصف الصفحة، وفي 29 سطراً، أن يلغي أو ينسخ سبع اتفاقيات و12 ملحقاً ورسائل تفسيرية تم تبادلها، نشرت في 133 صفحة، تحت عنوان الاتفاقيات التونسية الفرنسية الممضية في باريس في 3 يناير/ كانون الثاني 1955؟
نصّ بروتوكول الاستقلال في نقطته "ب" على أن أحكام اتفاقيات 3 يناير/كانون الثاني 1955 "التي قد تكون متعارضة مع وضع تونس الجديد، وهي دولة مستقلة ذات سيادة، سيقع تعديلها أو إلغاؤها"، على أن تستأنف المفاوضات يوم 16 أبريل/ نيسان 1956 "قصد الوصول في أقصر الآجال الممكنة، وطبقاً للمبادئ المقرّرة في هذا البروتوكول، لإبرام الوثائق الضرورية لوضعها موضع التنفيذ"، حسب الجملة الختامية للبروتوكول. وفي نقطته "ج"، أكد نص الاستقلال على "مباشرة تونس مسؤوليتها في مادة الشؤون الخارجية والأمن والدفاع وكذلك تكوين جيش وطني تونسي"، ما يفيد أن هاجس المفاوض والعقل الخفي المدبر لمضامين الاستقلال، أي الحبيب بورقيبة، كما يشير إلى ذلك الحبيب بولعراس، في كتابة الضخم "تاريخ تونس"، هو الأمن والخارجية اللذان حافظت عليهما الحكومة الفرنسية، كما هو مثبت في اتفاقيات الاستقلال الداخلي، وجعل منهما المفاوض الفرنسي محل تشبث ظاهري ومناورة، في حين بقيت أجزاء كثيرة من الاتفاقية العامة لسنة 1955، وملاحقها والاتفاقيات المتعلقة بالأشخاص والقضاء والتعاون الإداري والفني والصحي والطيران المدني والمجال الثقافي والتعليمي وكذلك الاتفاقيات الاقتصادية والمالية، خارج المراجعة والتنقيح والإلغاء والنسخ، الأمر الذي جعل منها ملزمة إلى اليوم، على الرغم من سقوط بعض مضامينها بمرور الزمن، أو تحت تأثير الأحداث السياسية والعسكرية التي عاشتها تونس، مثل معركة رمادة 1958 وحرب بنزرت 1961 وجلاء القوات الفرنسية عنها سنة 1963، وتأميم أراضي المعمرين سنة 1964، على قاعدة أن للاتفاقيات بين الدول صبغة إلزامية، وقوة قانونية تفوق القوانين الوطنية، ولا تنسخها أو تلغيها إلا اتفاقيات ومعاهدات مماثلة، مثلما هو متعارف عليه في القانون الدولي.
ولعل من أبرز ما بقي ساري المفعول والإلزامية من اتفاقيات الاستقلال الداخلي ما جاء في المادة السابعة من الاتفاقية العامة من أن "العربية هي اللغة القومية والرسمية للبلاد التونسية، ولا تعتبر اللغة الفرنسية لغة أجنبية في البلاد التونسية، ويبقى وضعها مضبوطاً رسمياً بالاتفاقيات الحالية"، الأمر الذي جعل من الفرنسية لغة ثانية، تتمتع بوضع خاص، بل كثيراً ما تكون الأولى المعتمدة دون غيرها مثلما هو الشأن في كثير من مؤسسات التعليم العالي في المجالات العلمية والطبية، وفي بعض المؤسسات الإدارية والمالية والإعلامية. ومن أبرز نتائج هذه الاتفاقية تصنيف تونس ضمن الدول الفرنكوفونية التي يصل عدد سكانها الناطقين بالفرنسية إلى أكثر من ستة ملايين، بنسبة 54% والأعلى رتبة في إفريقيا حسب ما ورد في تقرير المنظمة العالمية للفرنكوفونية لسنة 2014 عن اللغة الفرنسية في العالم. وينطبق الأمر على ما ورد في الاتفاقية الاقتصادية والمالية، خصوصاً في المادة 33 التي نصت على أن "تلتزم الحكومة التونسية بأن تفضّل، عند تساوي الشروط، المشاريع (الشركات) الفرنسية أو التونسية أو المشاريع المؤسسة لهذا الغرض، باتفاق الحكومتين، لتحصل على رخص التفتيش والاستثمار، وعلى اللزم، وتحتفظ الحكومة التونسية بحقها في المساهمة في رأس مال هذه المشاريع". وفي المادة 34 التي تقرّ "أن آجال اللزم والاتفاقات ورخص التفتيش والاستثمار التي هي الآن مبرمة أو ممنوحة لا يمكن للسُلَط العامة أن تغيّرها، إلا بموافقة المستلزم أو المتعاقد أو الممنوحة له". وتنطبق هاتان المادتان على الشركات الفرنسية، خصوصاً شركة كوتزال التي ما فتئت تستغل السباخ التونسية، ومناجم الملح، منذ الفترة الاستعمارية على قاعدة عقود مبرمة منذ نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، مع تمتيعها بدفع أتاوة استغلال تحتسب باعتماد أدنى سعر من السلم العام لاستغلال أراضي الدولة التونسية، مقدرة في حدود الفرنك الفرنسي للهكتار الواحد في السنة الواحدة، وقد تغاضت الحكومات المتعاقبة عن طلب تجديد لزمة الاستغلال مع الشركة الفرنسية، لإدراكها أن المسألة محكومة باتفاقيات الاستقلال الداخلي التي لم يقع مراجعتها على الرغم من مطالبة المجتمعين، المدني والسياسي، وبعض نواب الشعب، في أكثر من مناسبة، بمراجعة اللزمة ووضع شروط جديدة للاستغلال، تتماشى مع التحولات العميقة الاقتصادية والسياسية في تونس والعالم، وتضمن سيادة الدولة التونسية على أراضيها.
نقاط الضعف والوهن كثيرة في بروتوكول الاستقلال، من ذلك ما ورد في النقطة "أ": "أن 
المعاهدة المبرمة بين فرنسا وتونس يوم 12 ماي 1881 لا يمكن أن تبقى تتحكم في العلاقات الفرنسية التونسية"، وهي صيغة مبهمة لمعاهدة قننت احتلال تونس، وجعلت منها مستعمرة فرنسية، في حين كانت النخب الوطنية في تونس التي قاومت الاحتلال الفرنسي لأجيال متعاقبة تنتظر صيغة أكثر وضوحاً، تقطع كلياً مع الاستعمار الفرنسي، وتقوّض أسسه القانونية بالكامل، وخصوصاً معاهدة 12 ماي التي تمثل نقطة سوداء في تاريخ تونس، نجم عنها ثلاثة أرباع القرن من الاستعمار الفرنسي. أما اعتراف وثيقة الاستقلال بوجود دولة مستقلة ذات سيادة، فقد دحضه وكذّبه البقاء العسكري الاستعماري في رمادة في أقصى الجنوب، وفي بنزرت في أقصى الشمال إلى سنة 1963، لأهمية تلك المناطق في الاستراتيجية العسكرية الفرنسية، كما تشير إلى ذلك اتفاقيات الاستقلال الداخلي.
عوامل كثيرة سرّعت بقبول الفرنسيين باستقلال تونس، منها الداخلي، خصوصاً تنامي المقاومة المسلحة اليوسفية وامتداداتها الشعبية التي اعتبرت اتفاقيات 3 يونيو/ حزيران 1955 خطوة إلى الوراء، ومنها الخارجي، خصوصاً تنامي الثورة المسلحة الجزائرية المدعومة من النظام الناصري في مصر، وكذلك منح المغرب استقلالها الكامل بدون اتفاقيات حكم ذاتي، لكن وثيقة الاستقلال وبقية الاتفاقيات لم تقطع مع المستعمر القديم، وإنما احتوت بنوداً تخفي تبعية وهيمنة لا تزال آثارهما تعتمل في التجربة التونسية على الرغم من مرور أكثر من ستة عقود على توقيعها.