من اعترافات "كاذب" يومي

من اعترافات "كاذب" يومي

22 مارس 2018
+ الخط -
(1)
أكره التشاؤم بطبعي، وأحب المتفائلين والتفاؤل، مع أنني، في الحقيقة، لا أعترف لا بالتشاؤم، ولا بالتفاؤل، في حياتي الخاصة، ما يحسم الأمر بالنسبة لي هو مستوى إنجازي في كل شيء، يعني لا أتشاءم ولا أتفاءل. ومع هذا، واتساقا مع المزاج العام بالنسبة لهذه القضية تحديدا، أتحدث عن التشاؤم والتفاؤل، وأحرص، في كل صباح، على أن أرسم ابتسامة رضا على وجوه كل من يقرأون مقالتي اليومية، حتى لو كانت عن أشد الأمور سوادا، وهذا جزء من مهمتي كاذبا يوميا، وهي أن أضلل مشاعر الناس، وأزيّن لهم السوء. أنا لست كاتبا مأجورا، لكنني أتقاضى أجرا عما أكتب، وأنا مضطرٌ للظهور يوميا للقارئ، حتى لو كان مزاجي في غاية السوء. لهذا أشعر أنني أكذب على نفسي وعلى القراء، كلما أحاول تحسين أمزجتهم، في حين أن مزاجي أنا غير قابل للتحسين، لهذا أشعر أنني كاذب كبير.
(2)
أدّعي كل مرة أطل فيها على قرائي أنني كاتب موضوعي، ومحايد، وعلمي. الحقيقة أنني أبعد ما أكون عن كل هذه الادعاءات، حينما أكتب يوميا، أستدعي كمّا هائلا من "المراقبين" الذين يطلون علي من شاشة الحاسوب، وخصوصا من يُجزل علي في العطاء منهم (!) وأحاول، بكل ما أوتيت من قوة، أن أرضي كل هؤلاء، وغالبا ما أفشل في مهمتي، فمن المستحيل أن ترضي هؤلاء كلهم. وفي الحقيقة، إنني معنيٌّ أكثر بإرضاء صاحب المال الذي لا ينساني من فضله وكرمه. لهذا أمارس ما يمكن أن تسمى "الكتابة البهلوانية"، أقفز ما بين السطور، وفوقها وتحتها، كي لا أقع في "المحظور"، وهو هنا شيءٌ مبهم، فما هو محظورٌ لدى سين مباحٌ لدى صاد. لهذا، أمارس لعبة اللعب بالكلمات، كي أفوز بإطلالتي على القارئ، وأنجو من أي مساءلة، قبلية أو بعدية، أعني قبل النشر أو بعده.
غالبا ما أشعر بتأنيب ضميري بعد كل مقال أكتبه (أعني أكذبه)، لأنني لا أذكر، ولا مرة، أنني كنت أنا نفسي وعلى حقيقتي، حينما أكذب أو أكتب مقالتي اليومية، أنا جزء من حالة كذب عام، وباء شامل يدمر النفوس ويشوهها، ويزيّف الوعي، ويسهم في حالة الموت السريري الذي يعاني منه العقل الجمعي للقوم.
(3)
في المرات القليلة التي كنت أرفض فيها كتابة من نوع "ما يطلبه المستمعون"، أو القارئون، 
كنت ألبس الحق بالباطل، وألعب بالكلمات، وأزيّن المشوّه، والسيء. أنا كاذب كبير، لا كاتب كبير، أعتذر لكل من ضللته خلال السنوات الماضية، وزيفت وعيه، وضحكت عليه، ومنه، هذه ليست صحوة ضمير فجائية، فمثلي ضميره مستتر، أو في غيبوبةٍ طويلةٍ قد لا يصحو منها. ما أكتبه اليوم نوعٌ من التطهر الكاذب، كي أبدو بصورة "الموضوعي" الذي يكذب حتى وهو يتبرأ من الكذب باعترافاته. أنا جزء من طبقةٍ من النخب زيفت كل شيء، وتواطأت مع الشيطان، ونامت في فراشه حتى، ومهدت الأرض له، كي يتحول إلى مسخ، كم أكره نفسي والقراء والكتابة.
أنا جزء من "نخبة" ضالة مضللة، مهمتها أن تحرق البخور للسحرة والشراذم والرويبضات، الذين باعوا كل شيء في سبيل إرضاء الأسياد، بل إنهم أدمنوا العبودية، إلى حد أنهم لا يطيقون رؤية أي سيدٍ باستثناء سيدهم هم، الذي يستمدون منه "شرعيتهم" الكاذبة، وهي في الحقيقة نوعٌ من الاستيلاء على مقاليد الأمور والحكم، لإشباع نهبهم الذي لا يُشبع للسيطرة على رعاياهم وأتباعهم، بل إنهم كرّسوا حياتهم لسحق أي برعم حرية، أو خيرٍ ينبت هنا أو هناك، فاحترفوا مهنة "الثورة المضادة"، ووقفوا كل مالهم وجهدهم لمحاربة الحرية والانعتاق، فكان شأنهم شأن بنت الليل التي لا تطيق رؤية الشريفات، وتجتهد في تجنيدهن لامتهان المهنة نفسها، ومهمتي أن أزيّن للقراء سواد ما يفعل هؤلاء، وتسويق "فلسفتهم العبقرية"، وتزيين سوء ما يفعلون.
(4)
أخيرا، وهذا هو المهم، كل ما كتبته (أو كذبته) أعلاه هو محض هلوسة، حتى أنا لا أصدقها، كل ما في الأمر أنني رغبت في "تسويد" مساحة هذا المقال، وحشدت فيه كما معقولا من اليوميات التي لا تمت للحقيقة بصلة، أو ربما لها صلاتٌ غير وثيقة بالحقيقة، أو بجزء يسير منها، وليس مهما هنا أنني أكتب عني، أو عن فئة من الكتاب "الكذبة". المهم أنني برّأت ساحتي من أي تطهر مزعوم.
بقيت ملاحظة لا أهمية لها على الإطلاق، وهي أنني أكذب كما أتنفس، أعني كما أكتب، بوصفي كاتبا أو كاذبا "تنويريا" أو تبريريا، لا فرق. ومن المستحيل علي أن أكون صادقا تماما، لفرط ما أدمنت على الكذب، بل إنني غالبا ما أكذب حتى على نفسي، فأفلسف خيانتي لضميري الغافي، بانتظار "صرة" المال التي يجود علي بها أسيادي.