العودة إلى حكم "الزعيم الأوحد"

العودة إلى حكم "الزعيم الأوحد"

21 مارس 2018

جين بينغ في مجلس النواب الصيني (17/3/2018/فرانس برس)

+ الخط -
"وفّر الطعام لشعبك، واعط السلاح لجندك، واعمل على زرع ثقتهم فيك، ولتكن تلك أولى مهماتك"، تلك كانت نصيحة كونفوشيوس للحاكم، والظاهر أن الرئيس الصيني، جين بينغ، اقتنع بها وهضمها جيدا، وخطط للأخذ بها منذ أنهى مرحلة "إعادة التثقيف"، بعد تعرّض والده الكادر الشيوعي المتقدم للإذلال في حملة التطهير في الستينيات، حيث عاش الصبي سنوات على سرير خشبيٍّ متهالك، في كهف ريفي بسيط مضاء بمصباح نفطي، قبل أن ينشط داخل منظمات الحزب، لاحقا قال "حددت هدفي بوضوح"، كان هدفه أن يكون شيوعيا نشيطا، كي يصعد السلم بنجاح نحو مواقع السلطة الرفيعة، وهذا ما كان.
سنوات معدودة من الدأب والنشاط الفريد والفاعلية الشخصية وضعته في الموقع الأول في الحزب والدولة، وبدأ تنفيذ مخططه بصمت، القضاء على الفساد والكسب غير المشروع أولوية عملية، محاسبة ما يقرب من مليون من أعضاء الحزب الشيوعي، تطويع الآخرين وتحسين أحوالهم، وكسب رضاهم بأساليب مختلفة، طعام أكثر، شراب أفضل، امتيازات أكبر، وحياة أكثر متعة، إعادة بناء العسكر والأجهزة الأمنية يكفل تأمين الحماية والدفاع عن البلاد، ولكي لا يستغل الخصوم ثغرة ما عمد إلى تطويقهم تحت شعار "لا يمكنك النشاز عن نغمة الحزب"، كان ذلك يعني إسكات الأصوات المخالفة بأي ثمن، وفي الخارج "صين قوية" تستطيع مواجهة الأعداء التقليديين في ميادين الاقتصاد والعسكر والدبلوماسية الشعبية.
لم يكن ممكنا انتزاع ثقة الناس بسهولة، هذا ما أدركه بينغ جيدا، وخصوصا انتزاع ثقة الملايين الثمانين الذين تضمهم منظمات الحزب الشيوعي ودوائره في أنحاء البلاد، والذين يشكلون
الوسط الناقل بين بينغ ومواطنيه العاديين الذين تقول الإحصاءات أن عددهم وصل إلى أرقام فلكية، لكن الثقة توطدت بسرعة، وبرز بينغ رجلا قويا فرض نفسه بجدارة إلى درجة تضمين طروحاته وأفكاره في الدستور، وهو شرفٌ لم ينله سوى الزعيم الراحل، ماو تسي تونغ.
دقت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ساعة الحصول على الجائزة الكبرى، وكان الأمر لا يتعدى إيحاء بينغ لبعض مقربيه من أعضاء اللجنة المركزية للحزب بتقديم مقترح بتعديل الدستور لإلغاء تحديد رئاسة الدولة بدورتين، وإطلاقها، بما يعني الحق له بالبقاء رئيسا مدى الحياة. وبالطبع، لا بد من الاستجابة بما يفتح الطريق أمام بينغ للاستئثار بموقع القمة طوال حياته، ومن كانت لديه وجهة نظر مخالفة هل يملك الجرأة في الاعتراض، وهو يعرف أن إطاحة الرأس في نظام كهذا أقرب إلى شرب كأس ماء!
وهكذا فإن قوة بينغ وقدراته الشخصية، وإتقانه لعبة الحكم وفن البقاء في القمة بسرعة، وتصفية خصومه، بحجة أو بأخرى، أعادت إلى الصين حكم الزعيم الأوحد القوي والقادر على فرض ما يريد ربما لفترة أطول مما نظن، خصوصا أن الاضطراب الذي تشهده مفاصل النظام الدولي في أكثر من زاوية ومكان، يرجح رضا شرائح واسعة في عالم اليوم لهذا التوجه الذي لم تشرع فيه الصين وحدها إنما شرعت دول أخرى في ترويجه، والدفع باتجاهه، يمثل هذا أمامنا في أكثر من مكان، وإن بدرجةٍ أو أخرى، وبغض النظر عن طبيعة نظام الدولة المعنية ومؤسساتها، خذوا روسيا، أو تركيا، أو حتى مصر أو السعودية، في هذه الدول الأربع وغيرها يتبدّى للمرء السعي إلى الجنوح نحو صيغة الحاكم الفرد القوي المطلق، المخطط لأن يظل مدى الحياة على قمة السلطة وحده، وقد يتم تغليف الحال أحيانا بغلافٍ ديمقراطيٍّ، عبر صناديق انتخاب مقرّرة حصيلتها سلفا، أو تفويض شعبي مفترض، أو حتى لو كان التظاهر بالقوة والاقتدار مفتعلا عبر مشاهد شعبوية زائفة.
خذوا أيضا تمني بعض الرؤساء أن يمارسوا اللعبة الماكرة نفسها، لكن أنظمة بلدانهم وتجاربها لا تسعفهم، أميركا أفصح رئيسها دونالد ترامب عن رغبته في أن تحذو بلاده حذو الصين، وزعماء أقطار عدة في أميركا اللاتينية وأفريقيا يخوضون تجربة الوحدانية في الزعامة والـتأبيد، من دون أن يجدوا حرجا في ذلك، وحتى بعض قادة دول في أوروبا يتمنون لأنفسهم ما فعله بينغ، لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه، ودعك من عالمنا العربي الذي له تراث عريض في هذا الميدان.
هنا يبقى السؤال الصعب مطروحا: هل يسير العالم إلى الوراء أم يصح في هذا المقام إدراج مقولة لينين "خطوة إلى الوراء، خطوتان إلى الأمام"، وعسى أن تكون خطوة الوراء هذه المرة قصيرة.

دلالات

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"