إلى أي حضيض وصلنا؟

إلى أي حضيض وصلنا؟

21 مارس 2018
+ الخط -
هناك كلام فائض وسائب، وأحسن طريقة للرد عليه تجاهله وإهماله. ولكن حين يتكرر ويتكرر، يتحول إلى سيمفونية مزعجة وصوت نشاز، إذاك لابد من دحضه، ليس لإقناع أصحابه، فهذا آخر ما نظنه، لكن لتسليط الضوء عليه، وتعريته وللكشف للآخرين عن مستنقعات من السفاهة التي أصبح بعض منا يسبح فيها. إن كان من مزايا للحرية، وأساسا حرية التعبير، فإنها تكشف عن مستوانا، وتعرّي جميع أمراضنا وضحالتنا.
هناك عقول تصحرت، ولم تعد تجود حتى بالرمال، القارات تزحزحت، وهي لا حركة لها إلا منطق "أنا أكره إذن أنا أفكر". الكره لا يمكن أن يكون إلا منتوج العجز والفشل وغياب النظرة والقدرة على المستقبل. كأن الأقوى إيمانا هو الأكثر حقدا وكرها للآخر المختلف. فعلى المرء أن يعتصر عقله، كي يفهم ما آلت إليه الأمور من كره وحقد مجاني، وهذا الكم الهائل من الرداءة والجهل الذي لا ينفك عنا، وأبينا نحن أيضا أن لا نفارقه ونتعالى عليه. فما أخطر الجهل والفراغ الفكري، حين نَسْعَدُ ونفتخر به ونحوله إلى سلاحٍ لمحاربة كل ما هو علم ومعرفة ونور، ونصبح فرسانا لحروب وهمية، تخاض باسم العقيدة أو الهوية والملة.
مع رحيل المناضل الكبير، نيلسون مانديلا، رمز النضال ضد التمييز العنصري، ارتفعت أصواتٌ واحتدمت نقاشات على صفحات الأنترنت، وبعض الصحف الورقية، بشأن إجازة الترحم عليه أو عدمها. ناضل الرجل وضحى من أجل ما آمن به بكل ما أوتي من قوة وعزيمة وصبر وإيمان، ورحل إلى مثواه الأخير، بعد أن حقق رسالته، ونحن انغمسنا في اللغو والثرثرة بشأن مدى أحقيته دخول الجنة من عدمها. وها نحن اليوم، مع بعض الأصوات الشاذة، نعود إلى المعزوفة نفسها، معزوفة التضليل والتجهيل والكراهية والأسئلة الفارغة المغلوطة التي تكشف عن مدى تخلفنا وجهلنا وحقدنا. فهل ستيفن هوكينغ يستحق أن نترحم عليه أم لا؟ هل مصيره الجنة أم جهنم؟ بل هناك من راح كرهه وحقده وجهله إلى أبعد ما يكون، وقال: "أن ستيفن هوكينغ نفق ولم يمت"، من دون أن ينتبه إلى أنّ هذا اللغو لا يمكن أن يصدر إلا من العقول النافقة أصلاً.
هناك خواء فكري ينتشي بالسراب والأوهام، هناك عقول تعج بكل الفراغات ومساحات من العقم، عقول تجدف عكس تيارات العلم والمعرفة والحياة، لقد استشرى فكر الكآبة والفزع، فكر لا ينشط إلا في أعتاب الرداءة، ولا ينمو إلا في حقول الضحالة.
لدينا أمم تعمل وتجتهد وتبدع، ثم تنجح ونحن نتكاسل، ننام، نثرثر، ننقل ونتقهقر، بدلا من تنقية دواخلنا، بدلا من تشطيب أوساخنا، راح بعض منا يعلن عن امتلاكه مفاتيح الجنة والنار، ويفرز أصحاب الجنة عن أصحاب جهنم، فمتى أصبحتم تكشفون عن الغيب؟
أي دين هذا الذي لا يستقيم إلا بإقصاء الآخر الذي لا يعلن اصطفافه معنا؟ أي ملةٍ هذه التي لا تقوم إلا برفض الآخر الذي لا يصرح بانتمائه لملتنا؟ أي أخلاقٍ هذه التي لا تسمو إلا بِذَمِّ أخلاق الآخر الذي لا يتقاسم معنا قيمنا وأخلاقنا؟ أي عقلٍ هذا الذي لا يفكر إلا ضد كل ما أتى به الآخر، وإن كانت حقائق ومعارف علمية صالحة للبشرية جمعاء؟
الحمد لله أن ابن رشد دفن بعيدا عنا، وإلا لتم نبش قبره وإحراق رفاته ونفي ترابه، سيزيف كَلَّ وتَعِبَ وأنتم لا زلتم ترددون نفس الأسطوانة: "داروين مسيحي ملحد، ماركس يهودي ملحد، فرويد يهودي ملحد، آينشتاين يهودي ملحد، نوبل يهودي ملحد، ستيفن هوكينغ ملحد..."، واللائحة طويلة.
وأنتم ماذا فعلتم بإيمانكم؟ وبماذا أفدتمونا نحن قبل أن تفيدوا الإنسانية؟ وماذا قدمتم لأوطانكم؟ من منكم أفادنا ولو بإيقاد شمعة أو مصباح أو غرس شجرة أو سحب حجرة من وسط الطريق، أو ردم حفرة؟ ولماذا تفضلون دائما الارتماء في أحضان المستنقعات، بعيدا عن الأنهار الجارية؟ ما هذا الحضيض الذي وصلنا إليه؟ ما هذه الضحالة التي ننعم بها؟ متى نتحرّر من وهم السراب؟ من يسيء لهذا الدين، ولهذه الملة، غير أصحاب هذا المنطق؟
واهم ومخطئ من يظن، ويعتقد أنه يدافع عن إله جبار، عظيم، غيور ومتكبر خالق الكون (الله غني عن العالمين) وعن دين متجذر في التاريخ وساكن في نفوس الملايين وقلوبهم من البشر.
وتذكروا دائما أن الكبار لا يموتون، والضحالة مصيرها مطارح النفايات غير الصالحة لإعادة التدوير.
6CD01A49-74BB-4A9E-AC8F-3FB5631C566B
6CD01A49-74BB-4A9E-AC8F-3FB5631C566B
عمر بن أعمارة (المغرب)
عمر بن أعمارة (المغرب)