هل يختفي الزائف؟

هل يختفي الزائف؟

17 مارس 2018
+ الخط -
الحفاوة التي يحظى بها التافهون، جسدّها أنطون تشيخوف في قصة على لسان مهندس مغمور يقول: "أنشأت منذ سنوات قنطرة عظيمة ببلدة ما، وأقيم احتفال صاخب لافتتاح القنطرة، وألقيت الخطب الرنانة والشعارات الطنانة، وجلست متحفزًا أنتظر أن ينادى عليَّ وأكرَّم.. ثم شوهدت حركة غير عادية في الجمهور، وسادت حالة من الهرج والمرج، وتهامس الناس من حولي؛ فاستيقظ في نفسي الهاجس الأول، وظننت أنهم قد علموا أمري وسيحيطونني بهالة من المديح والإطراء، لكنني عرفت بعد وهلة أن سبب هذا الاضطراب ظهور ممثلة تافهة محدودة الطاقة، تتبعها حاشية من أسرى الغرام، تشق عباب الجمهور كالباخرة المزدانة، ووراءها الزوارق والعوامات، والسفهاء الغافلون يشيعونها بألحاظ الصبابة والهيام".
التمعت هذه القصة في خاطري حين سألني صديقي: هل شاهدت برنامج أمس؟ فقلت له: أي برنامج؟ قال: ذلك الذي استضاف الخليل كوميدي.. لم أرد، ربما لأنني لا أتابع هذه النوعية من السخافات، أو لأن صديقي يعلم الإجابة، لكنه يستدرجني.
واصل صديقي أسئلته من دون انقطاع: هل تتوقع أنه ساذج؟ أم أنه يتعمد الظهور بمظهر الأبله الأحمق، لينال قسطًا من الشهرة؟ هل تذكر أن شعبان عبد الرحيم ذاع صيته لأنه كان يستخدم الأسلوب نفسه؟ أتتفق معي في أن الترهات موضة؟ لماذا يلوذ المثقفون بالصمت إزاء تصدُّر هؤلاء الفارغون الساحة؟ أمطرني صديقي بوابل من الأسئلة، وآثرتُ الصمت.
الناس أذكى من أن تُخدع، وقد يطير الدخان، لكنه سريع الاختفاء؛ فإن وجد الجمهور البديل الأفضل لفظوا السخيف وسحقوه بأقدامهم. ليس من الحكمة أن نجلد الناس بألسنتنا، ولا أن نترحم على تدني الذوق العام وانحطاط الثقافة، إنما دورنا أن نخلق جوًا من التوازن بين السفاهات والمحتوى الإعلامي القوي. عندما يرى الناس وجوهًا إعلامية، تحترم تفكير المجتمع؛ فإن المساحة المتاحة للبرامج غير المفيدة ستتقزّم وتضمحل، وهذا أقوى طريق للحد منها.
كثيرًا ما يشعر الكادحون بالأسى؛ فالمهندس الذي رسم تشيخوف قصته كان أجدر بالتكريم، لكن الأضواء سُرقت من تحت قدميه لصالح المسؤول والممثلة! يتبع ذلك الشعور بالألم النفسي المرير؛ فالتكريم حافز المرء لمواصلة إنجازاته، وتجاهله يغريه بالكسل والزهد في العمل بنشاط، وعندها يخسر المسؤول رونقه، ولا تجد الممثلة من يدفع لحضور حفلاتها وأفلامها. فواعجبًا لمجتمع يكدح أفراده نهارًا ليرموا بأموالهم تحت أقدام التافهين ليلًا.
لم تفتح القنوات أبوابها لحاملي درجات الدكتوراة وأساتذة الجامعات، في حين تتصدر أخبار البرامج التي لا قيمة لها الصحف والشاشات. تنشئة الأجيال يعتمد في جانبٍ كبير منه على الإعلام، وإعادة عجلة التنمية في مجتمعاتنا وثيقة الصلة بتصحيح مسار الإعلام.
تغييب الشباب عما يدور يجري عبر آليات كثيرة، منها تلميع السفهاء، وصناعة نجوم من الصدف الرخيص، وعندها ينظر الشاب باستخفاف لمن يقرأ كتابًا أو يجتهد في عمله؛ فاللنجاح طريقة أسهل يراها على الشاشات.
ليس لنا أن نلوم المشاهد، ولكن علينا أن نقدم برامج تحترم عقله وفكره، وعندها سيختفي الدخان.
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)