رجلٌ من زماننا.. ستيفن هوكينغ

رجلٌ من زماننا.. ستيفن هوكينغ

17 مارس 2018

هوكينغ في نيويورك.. انتقد إسرائيل ورفض دعوة منها (12/4/2016/Getty)

+ الخط -
تستوقف المرء في حياة عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكينغ ورحيله الأربعاء الماضي (14 مارس/ آذار الجاري)، محطات وجوانب ذات دلالة، فقد توفي الرجل عن 76 عاما. لم يكن يبدو عليه عُمرٌ معين، فالضعف الشديد الذي أصابه، وانعكس على بنيته وقوامه، طغى على هيئته التي بدا صاحبها على الدوام وكأنه بلا عمر. وقد قيّض له أن ينال شهرة واسعة بفضل ذكائه وشجاعته، وحيث كان يدرك أن الكائن البشري مثال للضعف والضآلة ضمن النظام الكوني. وما يبدو قريبا من المجاز أصابه هو بصورة حسية، على أن ذلك لم يجعله يفقد بسببه قوته الذهنية أو روح الدعابة لديه، بل تحققت خلال ذلك "معجزته" الشخصية بالبقاء على قيد الحياة خمسة وخمسين عاماً، فيما منحه الأطباء المختصون فرصة الحياة عامين فقط، إثر إصابته بالمرض في سن الحادية والعشرين.
الأمر الأول مثار الاهتمام أن هوكينغ، على الرغم من أنه كان حبيس عجزه الجسدي، كونه كان يعاني الشلل التام، إلا أن هذا الوضع بالغ الصعوبة والإيلام على النفس لم يدفع به إلى العزلة أو المكوث في برج عاجي، فقد كان منشغلا بمصير الأرض وحياة الكائنات عليها، 
وخصوصا البشر. وعلى الرغم من ولعه بالعلم الذي نذر حياته له، فقد كان مؤمنا بغائية العلم من أجل خدمة الحياة وتطويرها. وكان ينظر إلى التطور التقني في مجال الذكاء الاصطناعي نظرته إلى كابوس قادم تحل فيه الآلات محل البشر، وتتطور من تلقاء ذاتها، موضحًا أن التنمية البشرية للرجل الآلي وجهاز الكمبيوتر ستصل، في النهاية، إلى إنتاج شكل جديد من أشكال الحياة عالية التقنية، التي تتفوق فيها الآلة على البشر الذين صنعوها. والحديث هنا يتعلق بعقدين أو ثلاثة عقود مقبلة، فقط.
وبذلك ارتقى هوكينغ إلى مرتبة المفكر الكوني والمصلح الكبير، الذي لم يلتصق ببيئته ومحيطه، بل انفتح على الانشغال بمصير الكوكب الأرضي، ومصلحة البشرية جمعاء، ما يجعله ملهما لأجيال من العلماء والمفكرين والمصلحين على امتداد عالمنا.
الأمر الثاني، ويتصل بما سبق، أنه أخذ ينظر، في الأعوام الأخيرة من حياته، إلى الأرض مكان إقامة للبشر، وليس فقط جزءا من الكون. وقد لاحظ أن أعداد البشر سوف تتضاعف كل 40 سنة، ووفق كشوفه هذه، فإن الأرض لن تكون مكانا صالحا للحياة، أو أن تكون الموارد كافية للحياة، قبل نهاية القرن الحالي الحادي والعشرين.
وكما أن البشر ينتقلون من مكان إلى آخر في المعمور الأرضي، التماسا للرزق، أو لنمط حياة أفضل، أو أقل سوءا من مكان إقامتهم الأصلي، فإن الرجل يدعو بإلحاح إلى اكتشاف كواكب أخرى قابلة للحياة فيها، بحيث يتوزع البشر على أكثر من كوكب واحد، ولا يتكدسون على كوكب الأرض. وهي رؤية فائقة، تبدو أقرب إلى الخيال العلمي المنسرح، إذ تبيّن أن الإقامة على كوكب المريخ شبه مستحيلة. ومع ذلك، هناك مشاريع قائمة لرحلة مركبة فضائية مأهولة، تُعدّ لها وكالة ناسا الأميركية، إلى هذا الكوكب. ومهما كان الأمر، فإن دعوة الرجل تستبطن الحاجة إلى إصلاح الحياة على كوكبنا، وعلى توظيف العلم لخدمة البشرية والحياة، وليس لتعزيز عوامل التدمير، وذلك قبل الوصول إلى مرحلةٍ تصبح فيها الحياة شبه مستحيلة على الأرض، وقد تُفنى معها البشرية في القرن المقبل، وذلك مع الزيادة في عدد السكان، وزيادة الطلب على الطاقة والارتفاع المضطرد في درجات الحرارة.
والكارثة تكمن خلالئذ في الفجوة بين كشوفات العلم وصانعي القرارات في عالمنا، فالعلم ما زال يوجّه ويُسخر لتمكين هذه الدولة أو تلك، ولامتلاك عناصر القوة، وخصوصا الأسلحة الأكثر تطوراً، ولا تنجح المنظومات الجماعية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، على الرغم من الخطوات التي قطعت في هذا المجال، في التجسير بين بيئة العلم والعلماء، وبين عالم السياسة ومطامح النفوذ.
الأمر الثالث: أن الرجل لم يحظ بجائزة نوبل في مجاله، على الرغم من مكانته العلمية 
المعترف بها، والآفاق التي فتحها في دراسته نشأة الكون ومساره. ولم يسبق له من جانبه أن تطرق إلى هذه المسألة. ومع أن الراحل لم يكن يمتلك عبقرية أينشتاين، إلا أن الفائزين بالجائزة الشهيرة لم يكونوا في غالبيتهم عباقرة، بل علماء ممتازين، وكان هو أحدهم، لكن الجائزة قفزت عنه. بما يجعل الاحتكام إلى "نوبل" معيارا لقياس الجدارة والتفوق في مختلف حقول الجائزة أمرا ينطوي على مبالغة وانتقائية.
الأمر الرابع: أن نعي الرجل جاء من أبنائه الثلاثة "يحزننا جدًا أن والدنا المحبوب توفي اليوم. كان عالمًا عظيمًا، وشخصًا نادرًا، ستبقى أعماله وتراثه معنا سنوات طويلة". ومع أن الراحل سبق أن حاز على في بلاده على وسام الإمبراطورية البريطانية في العام 1982، وعلى وسام رفقاء الشرف عام 1989، إلا أنه لم يحظ بنعي رسمي يوم وفاته. وهو أمر يثير الاستغراب، فلا يعقل أن يكون انشغال حكومة تيريزا ماي بتداعيات أزمة محاولة اغتيال الجاسوس سيرغي سكريبال وابنته يوليا، وما نجم عنها من قرار بطرد 23 دبلوماسيا روسياً، وتجميد أصول الدولة الروسية في المملكة المتحدة، قد صرف أنظار الحكومة البريطانية عن حدثٍ بهذا المستوى. وعلى الأغلب، أن البرود الرسمي في التعامل مع الخبر يعود إلى أسباب سياسية، كون هوكينغ كان عُمالياً ومعروفاً بمواقفه الناقدة لحرب فيتنام والحرب على العراق، ومأساة جرائم القتل المنهجي بحق أطفال سورية، وصولاً إلى انتقاد السياسة الإسرائيلية، ورفض دعوة وجهها إليه الرئيس الإسرائيلي عام 2013 (شيمون بيريز) لزيارة إسرائيل. وكان المنطق يقضي أن يتم التعالي عن الاختلافات السياسية مع الرجل، والنظر إليه كما هو: عالم فيزيائي كبير المكانة ينتمي إلى بريطانيا. خصوصا أنه لم يكن ناشطا سياسيا أو حزبيا بالمعنى الحرفي، بل صاحب مواقف أخلاقية، يعبّر عنها في أوقات متباعدة. ومغزى ذلك أنه حتى في البلد الذي يُعتدّ بحرصه على اللياقات، وعلى التهذيب الكلاسيكي، وهو بريطانيا، فإن أخطاء جسيمة يمكن أن تقع، كتجاهل غياب عالمٍ استأثرت حياته ومسيرته وكشوفاته باهتمام عالمي قلّ نظيره.
الأمر الخامس أن الرجل، على الرغم من وضعه الصحي الأليم، عاش حياته ونظر إلى نفسه شخصا عاديا، طبيعيا، ولم يُنكر أهواء نفسه البشرية، وقابليته مثل غيره لارتكاب أخطاء كما للسير على جادة الصواب. وعلى سبيل المثال، يسترعي الانتباه انفصاله عن زوجته بعد عشرين عاماً على الارتباط الزوجي، واقترانه بإحدى ممرضاته. والمغزى أن الحياة بكل تقلباتها وأحوالها لا تتوقف، ما دام المرء ينبض بالحياة.