تبعات إقالة تيلرسون

تبعات إقالة تيلرسون

17 مارس 2018
+ الخط -
حين رشح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الوزير المقال، ريكس تيلرسون، لمنصب وزير الخارجية في أواخر عام 2016، عبّر بعضهم عن تخوفهم من تأثير علاقة تيلرسون القوية، خلال عمله رئيساً لشركة النفط الأميركية إكسون موبيل، بقادة دول كروسيا والسعودية على مواقفه، ومن خطورة أن ينحاز إليهم في سياساته. ومع إقالته في الثالث عشر من مارس/ آذار الحالي، رأى كثيرون أن تيلرسون كان من الأصوات القليلة داخل إدارة ترامب التي دفعت إلى سياسة أميركية أكثر توازناً تجاه دول، كالسعودية وروسيا، وأنه عارض مواقف ترامب المتسرعة في تقاربها مع تلك الدول.
يكشف هذا التناقض الواضح صعوبة التنبؤ بتأثير شخصيات سياسية بعينها على مسار السياسة الخارجية الأميركية، حيث تنتشر حالياً تحليلات عديدة عن تبعات إقالة تيلرسون، وتعيين مدير الاستخبارات الأميركية، مايك بومبيو، خليفة له، خصوصاً وأن بومبيو معروف بمواقفه المتشددة تجاه إيران، والمنحازة لإسرائيل، وضد قادة المسلمين الأميركيين وجماعات كالإخوان المسلمين. حتى أن محليين عبروا عن مخاوفهم من أن يدفع بومبيو في اتجاه حرب شرق أوسطية، تتعاون فيها إسرائيل ودول عربية، كالسعودية والإمارات، ضد إيران، وهي حرب لو نشبت، أو بدأت معالمها تتضح، قد تقود إلى انفلات صراعات غير متوقعة العواقب عبر المنطقة.
في المقابل، يقلل آخرون من تلك المخاوف لأكثر من سبب، أولها وجود أصوات قوية، وإن 
كانت قليلة داخل الإدارة الأميركية، مثل وزير الدفاع جيمس ماتيس، ما زالت تدعم الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران، وتدعو إلى سياسة أميركية أكثر توازناً، وأقل صقورية تجاه الشرق الأوسط وحول العالم. أضف إلى ذلك أن التحديات الداخلية التي يواجهها ترامب، بسبب التحقيقات الخاصة بعلاقة حملته الانتخابية بروسيا، وتعدّد الملفات الدولية التي باتت مفتوحة أمام إدارته، وفي مقدمتها اللقاء المرتقب بين ترامب وزعيم كوريا الشمالية. هذا بالإضافة إلى مواقف حلفاء الولايات المتحدة، وخصوصاً الأوروبيين، والتي باتت أكثر رفضاً لمواقف ترامب الدولية، وذلك كما برز خلال الأزمة الخليجية وقرار ترامب نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، وخفض مساعدات الولايات المتحدة الإنسانية للفلسطينيين، وموقفه من الاتفاق النووي الإيراني، وتجاه قضايا المناخ والتجارة الخارجية، وهي خبرات عودت الأوروبيين، خلال العام الماضي، على الحذر من ترامب، وعدم التردد في اتخاذ مواقف صريحة وقوية في معارضته.
وهذا يعني أن التنبؤ بسياساتٍ بعينها سوف تترتب على إقالة تيلرسون وتعيين بومبيو أمر غاية في الصعوبة، في المقابل، صعوبة التنبؤ بسياسات بعينها، غير أن في الوسع الوقوف على الدلالات المهمة، والأكثر وضوحاً للتطورات الأخيرة، وفي مقدمة الدلالات ما يلي:
أولاً: من الواضح أن إقالة تيلرسون وتعيين بومبيو خسارة لما يمكن تسميته بمعسكر المعتدلين، ومكسب لمعسكر الصقور بقيادة ترامب نفسه، داخل الإدارة الأميركية. حيث مثل تيلرسون صوتاً للاعتدال داخل إدارة ترامب، بسبب مواقفه الداعمة للحوار خلال الأزمة الخليجية، ومع تركيا، والمحذرة من عواقب التقارب مع روسيا، والخروج من الاتفاق النووي الإيراني، ونقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، والتخلي عن لغة الدبلوماسية وعن دعم الحلفاء. حيث أثبت تيلرسون، رجل النفط القادم من خارج المؤسسات الدبلوماسية، حرصه على الحوار والحفاظ على تحالفات الولايات المتحدة، وذلك مقارنة بترامب وصقور الإدارة، مثل نيكي هيلي سفيرة أميركا في الأمم المتحدة، وبعض أفراد عائلة ترامب، مثل جاريد كوشنر مبعوث ترامب للشرق الأوسط.
في المقابل، يمثل بومبيو صوتاً للتشدد تجاه إيران وكوريا الشمالية، وداعماً للخطاب المتشدد ضد الإسلام والمسلمين، ولتراجع لغة الحوار، وقد ظهر هذا في احتفال بعض المسؤولين الإسرائيليين والخليجيين (معسكر الثورة المضادة) بإقالة تيلرسون وتولية بومبيو، ويبقى السؤال حول مدى التأثير الفعلي لبومبيو في ظل التحديات السابق ذكرها.
الدلالة الثانية لإقالة تيلرسون وتولي بومبيو هي حالة الإحباط الواضحة في كتابات نخب دبلوماسية وفكرية كثيرة في الولايات المتحدة، والتي باتت تشعر بتراجع غير مسبوق في صورة أميركا ومكانتها الدولية، وفي طريقة صناعة السياسات الأميركية وتنفيذها، وفي تقاليد الحكم وصناعة القرار الأميركي نفسها، وذلك كما يظهر في طريقة إقالة ترامب مساعديه وتعيين آخرين قليلي الخبرة ومنفلتي الخطاب والرؤى، وفي تقريب أفراد من عائلته، ناهيك عن طريقة صناعة القرار داخل إدارة ترامب، والتي تهدم تقاليد كثيرة في السياسة الأميركية وخطابه المنفلت والفضائح التي باتت تطارده.
تبرر كل هذه الأسباب حالة من الإحباط الشديد والشفقة على ما آلت إليه عملية صنع القرار 
والسياسات في الدولة الأهم والأكثر تأثيراً في العالم. وهنا يمكن الإشارة إلى تركة تيلرسون نفسه، فعلى الرغم من نظر كثيرين له شخصاً أكثر عقلانية واعتدالاً داخل إدارة ترامب، إلا إنه ترك ميراثاً سلبياً داخل وزارة الخارجية الأميركية نفسها، حيث سعى إلى تقليل ميزانيتها بمقدار كبير من ناحية، كما أنه أحاط نفسه بعدد قليل جداً من المستشارين، ولم يستمع لخبراء الخارجية، ولهذا شعر بعضهم بالارتياح لإقالته. وهنا تصور وسائل الإعلام الأميركية تيلرسون رجلاً قادماً من عالم المال، مليئاً بالفخر بذاته، معتداً برأيه ولا يبالي بآراء الخبراء والمتخصصين، ولا يدافع عن الخارجية الأميركية كمؤسسة، أو يحمي العاملين فيها، ما دفع بعضهم إلى الاحتفال برحيله، على الرغم من استيائهم من طريقة إقالته.
الدلالة الثالثة لإقالة تيلرسون وتعيين بومبيو هي دخول السياسة الخارجية وصورة أميركا في العالم فترة جديدة من الضبابية وعدم التأكد، وهي حالة تبدو مرشحةً للاستمرار والتكرار، خلال حكم ترامب، والذي لا يعرف أحد كم سيطول!
فخلال الفترة المقبلة لن تتوقف التحليلات الخاصة بتصورات بومبيو، وكيف يمكن أن يؤثر في السياسة الخارجية الأميركية، ولن تتوقف التحليلات الخاصة بأزمات ترامب الداخلية وتقلباته المزاجية، وكيف ستؤثر على سياسته، وقد يشجع بومبيو أو يعارض تدخل أفراد من عائلة ترامب، كجاريد كوشنر، في صناعة السياسة الخارجية الأميركية، ما يزيد الأمر ضبابية وتعقيداً، كما أن بومبيو نفسه يبدو متقلب المزاج، قليل الخبرة السياسية والدبلوماسية منفلت الخطاب.
وسوف يصب هذا كله حتماً في حالة الرفض الدولي المتنامي للسياسات الخارجية الأميركية في عهد ترامب وعواقبها، وفي تراجع مكانة أميركا في العالم وصعود مزيد من الضبابية والفراغ ومحاولات بعض النظم المتحفزة لملء هذا الفراغ، ومن ثم إلى مزيد من عدم الاستقرار على الصعيد الدولي. وهو تراجع لا تنفيه إدارة ترامب نفسها، فاستراتيجية الأمن القومي الأميركي التي أعلنها ترامب في ديسمبر/ كانون الأول الماضي تخلو من الحديث عن القطبية الأحادية مبدأً حاكماً للسياسة الخارجية الأميركية، وتركز، في المقابل، على التخطيط لسياسة أميركية أخرى، تواجه فيها الولايات المتحدة مزيداً من المنافسة الدولية على الأصعدة المختلفة.