الثورة السورية في عامها الثامن

الثورة السورية في عامها الثامن

16 مارس 2018
+ الخط -
نقاشٌ سوريٌّ لا ينفك يتجدّد: هل فشلت الثورة، أم انتصرت، أم لم تفشل ولم تنتصر؟ خارج هذا النقاش من شكّك بها منذ البداية، وأيضاً ليس مهماً التمييز بين مصطلح الثورة أو الانتفاضة الذي يصرّ عليه بعضهم. وطبعاً هناك تفسيرات لدى أصحاب هذه الآراء المتعددة، وهذا ربما يكون مهما.
المهم، حالياً، هو رصد الواقع كما هو، ولنقل وفق توضّعه بوقائع موضوعية؛ فالواقع الآن يؤكد أن سورية أصبحت محكومة باحتلالات خارجية. الشعب المحكوم هذا يعاني من تهجير تجاوز العشرة ملايين، والباقون في سورية محكومون بثلاث سلطاتٍ؛ فهناك من تبقوا من الشعب عند النظام، وهناك المحكومون بسلطاتٍ تُعلي الدين مرجعية لها، وقد قَمعَت هي بعد النظام المجموعات الثورية "العلمانية"، ولم تعد المظاهرات الشعبية الهامشية، والتي كان وجودها دليلاً على استمرار الثورة، ضد النظام بقدر ما أصبحت ضد سلطة جبهة تحرير الشام، وجيش الإسلام، وسواهما. وهناك سلطة الحزب الشمولي الكردي، والذي يتوهم أنّه يُقيم حُكماً على مناطق واسعة من سورية، وهو أداة سياسية لدولٍ كثيرة: لصالح النظام، وللروس تارة وكذلك للإيرانيين، وشراكته الكبرى مع الأميركان! هذا الحزب يخوض خصومة كبيرة ضد كل الأحزاب الكردية، ومع قطاع شعبي كردي كبير ورافض له، عدا عن تعميقه الخلاف مع العرب.
أصبح النظام الذي ثار عليه الشعب، بمختلف مؤسساته، خاضعاً للروس أو للإيرانيين 
و"عملائهم"، وتحطمت أغلبية قواته العسكرية والأمنية، وفاعليتُها مستمرة من جراء التنسيق مع الروس أو الإيرانيين، وهناك تيار كبير من المحللين يؤكد فقدانه أيّة استقلالية عن داعميه الخارجيين، وبالتالي أصبح مجال مساومةٍ عبر هذه الدول، ومع الدول الرافضة له ولروسيا ولإيران.
قضية الإعمار التي يتكرّر الحديث عنها، وتُطرح في إطار الوضع الحالي، تكاد تكون لجسِّ نبض الدول متضاربة المصالح على سورية، وورقة سياسية من الروس أو الأميركان أو الإيرانيين، وبالتالي لا تُطرح من زاوية التنمية أو الاقتصاد، وإنما من زاوية التوظيف السياسي وللتقاسم الاقتصادي لسورية مستقبلاً؛ فلا الأميركان بدأوا بإعمار الرّقة، ولا الروس بدأوا بذلك في حمص أو حلب أو سواها. عقود الإعمار "النهب" في النفط أو الغاز أو الفوسفات أو البنية التحتية كلها تكاد تكون مُعلقة، لما بعد التوافق الأميركي الروسي خصوصا.
الثورة بما هي مظاهرات شعبية مطالبة بإسقاط النظام لم تعد موجودة. وإمكانية تطويرها إلى ثورةٍ متكاملة وقادرة على محاصرة المدن الكبرى وإسقاط النظام انتهت؛ فأغلبية الشعب مهجرة، وبالتالي من غير المنطقي، وبوجود الاحتلالات والفصائل الإسلامية، أن نقول إن ثورة ما زالت مستمرة.
أسباب الثورة من إفقارٍ وقمعٍ واستبداد ما زالت موجودة، ويزيد في سوئها تغيّر أشكالها، أو تفتّت السلطة إلى سلطاتٍ، وكذلك وجود احتلالات خارجية. المشكلة هنا بالتحديد، فما يواجهه السوريون حالياً هي الاحتلالات، وأدواتٌ سورية من نظام وفصائل تعمل لديها، ويتم إنهاء كل استقلالية لها، لتنصاع بشكل كامل.
الشعارات التي يرفعها بعض السوريين، كإيقاف الحرب أو القتل بسبب الهمجية على الغوطة الشرقية وسواها، هل المقصود بها التسليم للنظام بحكم سورية كما يزعمون؟ أم المقصود بها، وقد أصبحت البلاد محكومةً للخارج، أن المخرج الممكن هو إيقاف حروب الآخرين على الأرض السورية، والبدء بحل سياسي، يهيئ الأرضية للمرحلة الانتقالية. رفض شعاراتٍ كهذه بحجة أنّها تخاذل وتسليم بانتصار النظام، والخضوع له مجدداً، يوضح أن هذا الفهم قاصر، ولا يرى الواقع، ويقف تفكيره عند "أوهام" إسقاط النظام، بينما الوضع تغير برمته. ولكن هل من بديل، وقد تعاظم الدمار للغوطة الشرقية خصوصا، وهي آخر المناطق التي يخافها النظام! وكذلك لعفرين. هل تكرار القول بضرورة التدخل الخارجي أمر عقلاني؟ هل يعقل، وبعد كل هذه الاحتلالات، أن يقال بهذا التدخل وألّا يُقرأ التدخل (الأميركي، الروسي، التركي، الإيراني) الموجود احتلالا، وأن ليس من تدخلٍ مختلف، إلّا بما يوزع سورية لصالح أطراف جديدة، وهو ما سيكون في حال حصل تدخلاً جديداً لإيقاف المجزرة في الغوطة؟
تدخل الثورة عامها الثامن، والفعاليات السورية بأغلبيتها في الخارج، ولا تزال على حالتها قبل 2011؛ قوى مشتتة، ضعيفة، وغير متوافقة فكرياً وسياسياً، والأنكى كارهة لبعضها بعضاً، وتعاني من سيطرة عقلية شيوخ القبيلة والطائفة والشلّة "الأنبياء"، وبالتالي تعاني مشكلاتٍ نظرية وعملية بآن واحد.
لم تعد الثورة كما انطلقت 2011 موجودة، وسورية نفسها لم تعد موجودة، وبالتالي مواجهة
الواقع الجديد، تقتضي مشروعاً وطنياً، يكون هدفه تشكيل هوية جامعة للسوريين، وبما يقود نضالاتهم نحو دولة لكل السوريين. الفكرة الأخيرة هذه، وعلى الرغم من تثمين الأغلبية ثورة 2011، فإن التفكير فيها كان بعقلية النظام، وهناك ما يشبه الإجماع، أن الثورة فقط كشفت الغطاء عن المستور والمخفي والمتراكم.
تختصر هذه العقلية المسيطرة كل أزمات سورية قبل 2011 بمنطق ديني وطائفي بامتياز، الثورة "سُنيّة" والنظام "علوي" وحامي الأقليات ومنها الكرد، ولا بد من التدخل الخارجي لإطاحة النظام. تفكير كهذا لا يعترف بقدرة الثورة على إسقاط النظام، وضَيّعَها، وأسقط ما حملته من احتمالات وممكنات. نعم، ساهمت المعارضة والسلطة في تشويهها، ودُفِعَ الوضع السوري برمته إلى أن يُحكم خارجياً.
تقف أمام المشروع الوطني، ومنذ 2011، رؤى وأفكار طائفية بامتياز، والآن هناك احتلالات متعددة، وهناك تيارات سياسية تحبذ الاحتلالات نفسها وتعمل معها، وهناك من يطالب باحتلالات جديدة، ويتكلم آخرون عن ضرورة وجود سلطة دولية "انتداب" تُفرض عبر مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة على سورية، وبالتالي هناك مشكلات كبرى تقف أمام إطلاق المشروع الوطني السوري؛ المشروع الذي يواجه النظام وحلفاءه والمعارضة وتشكيلاتها السياسية والعسكرية التابعة والدول المسيطرة عليها.
سورية المُتعبة في العام الثامن للثورة لم تعد فقط محتلة، وحروب الآخرين تدور في كل مدنها، ولا تلوح في الأفق توافقات دولية وإقليمية لحلٍ قريب، مشكلة سورية الحالية في غياب مشروع وطني للثورة ولسورية، ووجود تشوشٌ فكري وسياسي في كل المجالات، وتعدّديّة في التيارات السياسية الهامشية بامتياز.