هل يموت حلم قاسم حداد؟

هل يموت حلم قاسم حداد؟

15 مارس 2018
+ الخط -
إذا كانت الرقابة، بتجلياتها العربية  المتعدّدة، إحدى أبرز التبعات المزعجة، وأكثرها قدرة على التأثير السلبي في نفسية الشاعر، فإن التبعات الأخرى النابعة أحياناً من ذات الشاعر وأمراضها الخبيئة، لا تقل في القدرة على لعب الدور المزعج، والتي جاءت "جهة الشعر"، في واحد من أهدافها، كي تقنع الآخرين بأن أحداً ليس في حاجة لهذا الدور، وأنها تستطيع اختصار الأدوار، وتعديل مساراتها في سيناريو وصول القصيدة إلى المتلقي، بما يمكن اعتباره الحل الأجمل والأمثل.
تنهض "جهة الشعر"، إذن، ليس باعتبارها موقعاً إلكترونياً ثقافياً رائداً، أو بيتاً افتراضياً لخدمة الشعر وأهله، في الأزمنة والأمكنة المتحققة والمفترضة وحسب، بل أيضاً باعتبارها جهة مفتوحة على المستقبل، وقافلة بشرية في طريق التكنولوجيا ذهاباً نحو مبدأ الاستقلال الفردي في التجربة الشعرية، كمشروع كتابة ومشروع نشر، ومشروع تلقٍّ، وذهاباً، في الوقت نفسه، نحو مبدأ التعاون بين الكائنات الشعرية في سبيل العمل، من دون تخطيط مسبق أحياناً، على البدء برؤى ثقافية متكاملة، وغير متنافرة، على الرغم من اختلافها الضروري في الجغرافيات المختلفة والتواريخ المختلفة. وإذا كانت الشعرية العربية الراهنة تنهض، منفردة أحياناً، في فضاء من الموات الثقافي العربي العام، قياساً لحيوات مجاورة في الزمانين، القديم والجديد، والمكان شرقاً وغرباً، ففي "جهة الشعر"، وجد كثيرون الكثير من شروط استمرارية هذا النهوض اليتيم في سبات المشهد.
فبالإضافة إلى سرعة التواصل، ويقينية الاتصال بين قبائل الشعر العربي وأفراده الكثر، والتي وفّرتها الجهة، باعتبارها بوابة إنترنتية مفتوحة للجميع، دائماً، وفّرت الجهة أيضاً، بشفافية شعرية تليق بالراهن الشفيف، فرصةً تجاور النصوص، باختلافاتها الذاهبة إلى أبعد من مجرد الاختلافات الضرورية بين النصوص، فبدت نصوص الجهة وكأنها تتحاور في غرفةٍ باتساع السماء، بعيداً عما يمكن أن يكون عوائق طبيعية قد تتكئ على المجايلة التاريخية أو الإقليمية الجغرافية، أو التعدّدية الأسلوبية واللغوية، حيث يبقى النص الشعري حاضراً في حوار تلك الغرفة السماوية، معتمداً على ذاته الشعرية وحسب، بعيداً عن فكرة الشهرة، وقريباً من فكرة النشر في المفهوم الورقي الكلاسيكي لكليهما، ويبقى الشاعر صوتاً حراً وذاتاً متحرّرة من فكرة الآخر، مهما كان هذا الآخر.
ومن بين الهدايا الكثيرة التي تقدمها الجهة للجهويين ثقة ليس لها حدود، حتى الآن، فيستطيع كل من ينتج نصه الخاص أن يلج بوابة الجهة بسهولة أن يكتب اسمه في ذيل قصيدته مثلاً، وهو يضمن لنصه، وفقاً لهذا الترتيب المفرط في ذاتيته، متلقياً منتظراً، عبر نقرة أصبع على لوحة المفاتيح، بمزاجه الخاص ووقته الخاص، وربما بلغته الخاصة، فلا ننسى أن للجهة ألسنها الكثيرة والضاربة في راهن البشر، وتعدديتهم اللغوية الحاضرة بشدة في متن الإنترنت، وعلى هامشه أيضاً.
جهة الشعر.. حلم قاسم حداد الذي وزعه في جسوم شعرية كثيرة، فيما ظل يحسو قراح الشعر في أقداح العالم الافتراضي.. ومن يدري؟ لعله العالم الحقيقي الوحيد.
هذا كله كان في الذكرى العاشرة لتأسيس الجهة، حيث كانت الأحلام في طريقها إلى التحقق، وكان قاسم حداد من أوائل المثقفين العرب الذين آمنوا بالحلول التقنية لمواجهة مكائد العالم للقصيدة. أما الآن وقد مر نحو اثنين وعشرين عاماً على إنشائها، ثم وقد أعلن راعيها عن إغلاق الموقع، لأسباب اقتصادية في المقام الأول، حيث من السهل جداً إيجاد من يجعل الجهة تتلافاها بقليلٍ من الحنكة الاقتصادية، يبقى السؤال المؤرق عن موت الحلم باعتباره أحد الأحلام غير القابلة للموت أساساً.
نعم.. فربما يستطيع الشاعر أن يغلق الموقع فعلاً، لكن الجهة ستظل مشرعةً لاستقبال مزيدٍ من الأحلام الشعرية.. هذا أكيد.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.