في كل أم كاهنة

في كل أم كاهنة

15 مارس 2018

(لؤي كيالي)

+ الخط -
في سنة 1975، وكابن فلاح يؤجّر قراريطه التي يزرعها من الناس، ولا يدّخر شيئا إلا للمصائب فقط، والمدارس بالطبع عند الفلاح البسيط خارجة تماما عن حدود المصائب. جاء تنسيقي إلى جامعة الأزهر في تلك السنة، وإلى كلية التجارة، تملكّتني الحيرة، فلا أنا بالأزهري، ولا أنا أحب التجارة أصلا، فمن رماني هذه الرمية؟ إلا أن أمي (الخيّاطة) في قرية واسعة، أو شبه مدينةٍ تحدّها المزارع من كل جهة، استطاعت قبل سفري بيوم، على الرغم من أنها في زعل مع والدي، أن توفر لي مبلغ عشرة جنيهات كاملة، ولحافا من القطن الذي أعدّته بيدها، نازعة البزر من القطن على أيام قبلها. شِلْت اللحاف مع الحقيبة والمبلغ في حرص، وذهبت إلى قطار الثانية ليلا من غير أهل، ولم تكن شعرةٌ في شاربي، أو لحيتي، قد نبتت بعد، وفجأة وجدت نفسي في القاهرة. وفي ميدان الجيزة والناس حولي أكثر مما كنت أتصور، ومن التعب لا أنا قادر على حمل اللحاف مع ثقل الحقيبة، ولا قادر على التسليم بأنني متعبٌ ووحيدٌ وبلا حيلة حيال أمري.
الفلاح عنيد، وكأنه يعاند في أرض، حتى ساعدني عامل بناءٍ زعلان من شغله، ووصلت إلى (أبوقتاتة)، وأعطيته ما طلبه مني من قروش. دخلت الغرفة التي أجّرها صديقي من قبل، وركنت ما معي. كانت مساحة الغرفة بالضبط مترا ونصف متر في مترين. قلت: أذهب من فقر القرى في الصعيد إلى ضيق الغرف في المدن؟ كانت أجراس جامعة القاهرة بالقرب من أذني تدق، والمشي في الصباح بعد حرب 1973 كان جميلا، وكأن لا هناك جرت أي حربٍ من سنتين كما كنا نتخيل في القرى. كانت انطلاقة ما بعد الحرب وموت جمال عبد الناصر، وبدأت السوالف تهبط على الخدود، والبنات كما هن جميلات ومتمايلات، وبدأت أيضا تباشير اللحى على استحياء وندرة، وأنا ما بين بين، لا أنا "مشعر" حتى أرخي سوالفي، ولا أنا صاحب شعر نبت في ذقني كي تكون لي لحية، ولا أنا متديّن ولو حتى مظهريا، فصرت من "المجاورين" لجامعة القاهرة وأسوارها تاركا كليتي، ولم يكن على أيامها، لا حرس ولا يحزنون، وبعد أن خلصت فلوسي، تركت اللحاق لصديقي، وعدت إلى البلد أعيد الثانوية منازل. الغريب، وأنا في سنة 1975، وأنا في "غرفة أبو قتاتة" فكرت في مسجد الحسين، وإلى الآن لا أعرف لماذا، وخصوصا وأنه ليس لي سابقة في التدين، وإلى هناك ذهبت، ولا أعرف كيف ساقتني أقدامي إلى بائع كتب، فاشتريت "القاهرة 30" و"زقاق المدق"، وأتذكر أن ثمن الكتاب كان عشرة قروش طبعة مكتبة جودة السحار.
اليوم بعد ما يقرب من اثنتين وأربعين سنة وشهور من هذا الحدث، يدخل علينا عم أحمد عملة، تاجر العملات القديمة، بالجلباب واللاسة، وفي يده ورقة فئة العشرة جنيهات الحمراء، هي بالضبط الورقة التي ناولتها لي أمي ليلا سنة 1975، قبل أن أذهب إلى القطار بدقائق. والغريب أن الورقة التي مع عم أحمد كانت طبعة 1957، وهي سنة ميلادي. اشتريت الورقة من عم أحمد، وبعدها جاءت صورة أمي، وهي تدخل إلى غرفتها، وتخرج حاملةً الورقة، كي تعطيها لي، قبل أن يخضّر شاربي.
دخلت الحمام، ونزلت دمعتي. وقال في لحظتها عم أحمد نكتةً عن صعيدي وجحشين انحشرا في مزلقان قفط. اقتربت من عم أحمد وحاسبته على ثمن الورقة ومشيت. كم كانت أمهاتنا جميلاتٍ من دون أن يعرفن ذلك، ومن دون حتى أن نعرف نحن ذلك. فلو عرفنا لقتلنا أو حتى سرقنا من أجل إسعادهن، لكن الله سلّم، وهذا من ستره علينا.