إلى ابنتي

إلى ابنتي

14 مارس 2018

(محمد نصر الله)

+ الخط -
أي بنية، صغيرتي: قد ترفعين حاجبيك القصيرين المنمقين، وأنت تقرأين خطابي هذا لك. وقد خطر على بالي فجأة، وهو خطاب قديم لم يعد له مكان في زماننا هذا. لم يعد له مكان في زمنٍ تباعد فيه الخطاب والحوار بين البنات والأمهات، ولكني ألحقته بخطابٍ عصري جداً، يحمل كثيراً أيضاً مما أشعره نحوك، وهو أنك صغيرة في نظري، مهما كبرت، ومدللة في نظري، حتى آخر لحظة لنا سوياً على هذه الأرض.
أي بنية: أريدك أن تسامحيني، أولا وقبل كل شيء، ليس بيدي أنك قد جئت أول أولادي. ولذلك فقد حملت اسم الابنة الكبرى، وحملت بذلك المسؤولية معي. صدّقيني إنه ترتيب القدر، يا صغيرة، وإن كنت قد دعوت الله كثيراً أن يرزقني بطفلةٍ أزاول معها أمومتي الأولى، وكأن القدر قد استجاب لي، لتكوني ابنتي وأختي وصديقتي، وكل ما لي في حياة واجهناها سويا، ولم تكن عادلةً معنا بوصفنا نساء، أريد أن أسمع منك اليوم أنك قبلت اعتذاري.
صغيرتي، أحب أن أطمئن قلبك الصغير أن لا ذرة قلق في قلبي الكبير، لأنك قد وصلت إلى الخامسة والعشرين عاما من دون زواج، فلم يكن الزواج بالنسبة لي أحد أحلامي بك ولك، ولكني ربيتك وساعدتك، لكي تحصلي على شهادة مرموقة، من أجل أمر واحد، أن تكوني امرأة قوية، فقليلاتٌ النساء القويات، وما أكثر الزوجات المتظاهرات بالسعادة والناهلات من جور الأزواج والمجتمع وظلمهما. صدّقيني، يا صغيرتي، أنني لست قلقة، وأنني سعيدة بما وصلت إليه، فيجب أن تضعي في اعتبارك أن الزواج مرحلةٌ قد تمرّين بها في رحلة حياتك، وقد لا تمرّين. ولكن في الحالتين، لا أحب أن تكوني خاسرةً أو تشعرين بالخسارة.
أي بنية: أوصيك، يا صغيرتي، ألا تأخذي من تجربة زواجي الفاشلة نموذجاً معمماً عن الرجال السيئين في الحياة، فكما الحياة زاخرةٌ بهؤلاء، فما أكثر الرجال الطيبين، وما أكثر الآباء الممتلئين حناناً واحتواءً، مثلما كان أبي الذي هو جدك. لا تضعي أي نموذج أمام عينيك لشريك حياتك القادم إن جاء، ولا تعمّمي على أي أمر باحتذاء الأمثال، فلكل قاعدة شواذ، والحياة حولنا مليئة بالقصص والعبر التي لن تنتهي إلا مع انتهاء الزمان، فكوني حذرةً، وانظري بعين التفاؤل، وتذكّري المثل الشعبي الفلسطيني الذي لطالما رددته على مسامعك" إذا خليت خربت".
صغيرتي: يوما ما ستلتقين برجلٍ في معترك العمل الذي خضتِه. ولكن احذري منه يوم أن يخاطبك بصفة الذكر، حين تهاتفيه وسط عائلته أو رفاقه. الرجل الذي يخجل أن يخاطب امرأة أمام قومه سوف يبخل عليك بكل شيء في المستقبل. ضعي يا صغيرة نقطة، وابدأي سطراً جديداً بدونه، لا تتوقفي عند بدايةٍ، ولا في منتصف طريق، استمري، ولا تضعي قلبك في لحظة ندمٍ، لمجرّد أنه تتبع إشارة خاطئة.
أي بنية: اعلمي أن الفقد يكسر المرأة، حين تفقد الحنان والأمان، لكنه يتركها قويةً تعتمد على نفسها، ربما رأيت ذلك بي حين فقدتهما، ورأيت ذلك في نساءٍ كثيراتٍ حولنا لم يستسلمن. تأكدي، يا بنيتي، أن كسر المرأة لا يضعفها، ما لم ترد هي ذلك. تأكدي أنها امرأة لا يسعدها أن يقال عنها إنها بألف رجل، لكنها امرأة يتمناها ألف رجل.
ربيع عمري: ختاماً، وأكرّر لا تعدي سنوات عمرك، وتقولين لي في نظرات قلقة: لقد أصبح عمري ربع قرن، يا أماه، بل قولي لي لقد مرّ من عمري خمسة وعشرون ربيعاً، فأيامنا سوياً، يا مدللتي، كانت ربيعاً دائماً، كنت الزهرة التي نبتت وسط صحراء الجهل والتخلف المحيطة بي، كنت جرعة ماءٍ في جعبة فارس الصحراء. تذكّري، يا زهرتي، أنك مهما تمايلتِ فلن تنكسري. تذكّري أنك قوية، حتى وأنت تبكين، حتى وأنت تُخدعين، حتى وأنت تُخذلين، ولك مني كل الدعوات والصلوات الحاضرات والغائبات.

دلالات

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.