عناق ترامب وأون

عناق ترامب وأون

12 مارس 2018
+ الخط -
كعهده دائماً، فاجأ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، العالم بإعلان أنه سيلتقي الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون. في خطوةٍ مخالفةٍ لكل التصريحات والإشارات الصادرة من واشنطن، طوال الأشهر القليلة الماضية. سواء من البيت الأبيض أو وزارة الخارجية، فضلاً عن ترامب نفسه.
صحيح أن كلا من الولايات المتحدة وكوريا الشمالية قد أبدتا قدراً من ضبط النفس، والحرص على عدم إشعال الموقف بينهما في الأسابيع القليلة الماضية، إلا أن تلك التهدئة كانت مفهومة ومبرّرة، إذ كانت الأزمة بينهما قد وصلت إلى الحافّة.
وكاد التصعيد السياسي والتراشق الإعلامي من الجانبين يتسبب في نشوب مواجهة عسكرية، وربما نووية. ولم ينس العالم بعد أن ترامب وأون تبادلا التلويح باستخدام أسلحة الدمار الشامل والضغط على "الزر النووي".
التقلبات والمفاجآت عادة يومية لدونالد ترامب. لذا جاء رد فعل أركان الإدارة على فكرة التقارب مع بيونغ يانغ على النسق نفسه المستمر منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض.. تفاجؤ وذهول وحالة ارتباك تسود المسؤولين وكبار الموظفين. إلى حد أن المتحدثة باسم البيت الأبيض، من فرط الارتباك وتحت ضغط أسئلة الصحافيين، أكدت ما جاء في تغريدة ترامب بأنه سيلتقي الزعيم الكوري الشمالي، ثم تلعثمت في الرد على التوقيت المحتمل للقائهما، وعلى إلحاح الصحافيين على التأكد من أن تلك القمة ستنعقد فعلاً!
ما يهمنا، نحن العرب، في تلك المساجلات والمفاجآت، أن ترامب لا يُؤمن جانبه، ولا يُعتد بكلامه ولا بوعوده أو تهديداته، فهو يغير مواقفه كما يغير ملابسه. ولعل هذا التنبيه ليس جديداً، وإشاراته متوالية ومتكرّرة منذ اليوم الأول لترامب في البيت الأبيض. وبكل أسف، لا يبدو أن أحدا من العرب يلتفت إلى تقلبات ترامب ومفاجآته.
ويبدو أن الزعيم الكوري الشمالي يدرك تلك السمات جيداً، لذا لم تأت استجابته لفكرة مقابلة ترامب إلا بعد تدخل صيني ياباني. حيث لعبت بكين وطوكيو دور الوسيط والضامن لقواعد (وحدود) التقارب المأمول والمرونة المطلوبة من الجانبين.
ومن المهم النظر إلى الأمر من زاوية بيونغ يانغ، وليس فقط من زاوية واشنطن، فالدولة الشيوعية الوحيدة حالياً في العالم لا تزال تواجه عقوبات شديدة، وتعتبر نفسها في معركة دائمة ومفتوحة مع العالم الغربي الرأسمالي. وستصور الآلة الإعلامية الداخلية هناك الانفراجة مع واشنطن كما لو كانت نصراً مؤزراً على العدو الأميركي. والواقع أن كيم جونغ أون في حاجة ماسّة إلى الاستفادة من هذا التطور، لتثبيت شرعيته في الداخل، بقبول وعدم ممانعة من الخارج. وهو ما يحلم به منذ خلف والده قبل خمسة عشر عاماً، وكان في السابعة والعشرين من عمره.
بعيداً عن رمزية اللقاء، ثمّة قراءة أخرى لتلك المساجلة بين واشنطن وبيونغ يانغ، من منظور القوة والإرادة، فحيث تجتمع القوة مع الإرادة، يصير المستحيل واقعاً. وأي منهما لا تكفي وحدها، فلو لم تكن كوريا الشمالية تملك القوة، نووية أو غيرها، لما تمكّنت من فرض إرادتها إلى حد يجعل ترامب يرحب بلقاء شخصٍ كان يسخر منه، ويستهزئ به، ويهدد بإزالته هو وبلده من الوجود. والعكس صحيح، فإرادة التحدي والمناطحة وحدها، من دون قوة تحميها، لم تكن لتعني شيئاً سوى انتحار مجاني.
وفي كل الأحوال، تثبت التطورات يوماً بعد يوم، أن حديث بيونغ يانغ والعواصم المشابهة عن المؤامرة الكونية والاستهداف من القوى العالمية، وغير ذلك من الشعارات، ليس سوى هراء للاستهلاك المحلي. لا يضاهيه سوى هذيان الولايات المتحدة وبعض حلفائها بأن أي دولةٍ تحتفظ بقدرٍ من الاستقلالية، وتملك قرارها ولو نسبياً، فهي بالضرورة ترعى الإرهاب، وتدبر للعالم شراً. ومع أول مصافحةٍ بين ترامب وأون، وربما عناقهما، ستسقط تلك الترهات، وتتكشف من ورائها المصالح والقوة والإرادة.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.