على ضفاف قضية زياد عيتاني

على ضفاف قضية زياد عيتاني

12 مارس 2018
+ الخط -
تعتبر قضية الممثل المسرحي اللبناني، زياد عيتاني، وما جرى معه في أقبية المخابرات اللبنانية، نموذجا لدراسة العلاقة بين أنظمة الاستبداد وإسرائيل، لجهة عدم إطلاق هذه الأنظمة أية رصاصة ضد إسرائيل، واستعمال الأخيرة مجرد شماعة للتغطية على وحشية هذه الأنظمة الموجهة ضد شعوبها، وتشويه كل معارضة لها، عبر وسمها بـ "العمالة لإسرائيل"، وهي التهمة التي تلقى استهجانا شعبيا واسعا، إذ يكفي نطق "عميل لإسرائيل"، حتى يذهب العقل الجمعي الشعبي نحو المبالغة في التخوين أكثر من السلطة التي أطلقت التهمة، وهي ما أطلقتها إلا لأنها تدرك ما صنعت وفعلت بمجتمعها عبر عقود، إذ أوصلته إلى تلك الحالة من تعطيل العقل عبر صناعة متقنة. ويأتي الحدث هنا لاستثمار الأمر في تشويه الخصم المراد تحطيمه من جهة، وفي شد "وعي" الجماهير نحو "العدو" مجدّدا، بعد أن تأتي أحداث خارجة عن قدرة السلطة على احتوائها لتأخذ "الشعب" نحو مسار الحرية والديمقراطية أولوية أولى، من دون أن يعني ذلك أن الشعوب تتخلى عن فلسطين، بل تعمل على تصويب المعادلة بأن يكون إسقاط الأنظمة المستبدة (التي تمنع تحرير فلسطين) طريق تحرير فلسطين. لذا يعمل الاستبداد على جعل المعادلة معكوسة دوما، أي إلى جعل العداء لإسرائيل متفوقا على ما عداه. وحين يقال هنا العداء لإسرائيل، فإن المعنى به الكلام اللفظي الذي يقول ما لا يفعل، أي جعل الحرب على إسرائيل مجرد جعجعةٍ بلاغية لا أكثر.

يعتبر النظام السوري أحد أهم الأمثلة التي يمكن دراستها، لفهم العلاقة التي تربط أنظمة الاستبداد بإسرائيل، فهو نظام تأسست بنيته الإيديولوجية على رص الصفوف، وتحشيد الجماهير لتحرير فلسطين. وقد نقلت مصادر مختلفة أن الدكتاتور الأب حافظ الأسد قال لمؤسس حزب الكتائب اللبنانية، بيار الجميل، حين كان يحاول استمالته إلى صفوفه: "ضع فلسطين على لسانك، وعلّق المشانق". وتكاد العبارة تختصر العلاقة بين نظام الأسد وإسرائيل، فنحن أمام إيديولوجيا اسمها "تحرير فلسطين" أو "الحرب ضد إسرائيل"، إيديولوجيا موجهة إلى الشعب السوري والشعوب المجاورة أكثر مما تعنى بمعنى الكلام ومدلولاته، فالنظام الذي استنفد شعبيته بعد العقد الأول من عمره، بات في حاجة ماسّة إلى مصدر شرعية جديد. وقد عمل النظام السوري على بناء منظومة متكاملة بشأن هذا الأمر الذي يبدأ من المنهاج التعليمي للأطفال، ولا ينتهي عند المنظمات الشعبية والنقابات والاحتفالات التي تضع تحرير فلسطين والحرب على إسرائيل في المقدمة دائما، وذلك كله بغرض أن يُزرع في وعي السوريين أننا إزاء نظامٍ يستعد لمحاربة إسرائيل، وبالتالي كل شيء مؤجّل إلى حين تحرير فلسطين، بدءا من الحرية، وليس انتهاء بمحاربة الفساد، إذ كان كل حديث في الشارع السوري عن الفساد أو فتح باب الحريات يواجه بكلام من نوع: "ليس الآن وقته" و"ما فينا نحارب على أكثر من جبهة.. ألا يكفي أننا نواجه إسرائيل وحدنا!؟". وكان هذا الكلام يصدر من مواطنين مقتنعين كليا بما يقولون (وقد اختبر الكاتب هذا الأمر مرات في حوارات السوريين في الداخل قبل عام 2011). هذا الكلام الذي غرس في وعي هؤلاء هو نتاج تلك التربية التي تلقاها أولئك في المدارس، ولما يبثه المخبرون التابعون لأجهزة الأمن في الوعي السوري من تحت الستار، إذ تعمد السلطة، بين فينةٍ وأخرى، إلى بث الشائعات (اتهام المعارضين بالعمالة عبر بث شائعات في محيطهم الاجتماعي) التي تسمّم المجتمع السوري، وتبقيه أياما أسيرا لكلام القيل والقال، إلى أن يتبين عدم صحة الإشاعة. ولكن بعد أن تكون السلطة قد حققت ما تريد منها، أي شحن النفوس بـ"العداء لإسرائيل"، وتشويه سمعة من يطالب بالحرية وإسقاط النظام.
وهنا، حين يقال العداء لإسرائيل، ليس المعنى أن إسرائيل ليست عدوا وأنها ليست محتلة، بل هي كذلك حقا، وهي عدو السوريين والعرب والفلسطينيين وستبقى. ولكن ثمّة فارق بين أنها كذلك وأن يستغل النظام الأمر لمآربه، ولما يخدم بقاءه في السلطة، وهذا ما تستغله كل سلطات الاستبداد، أي أن تحوّل قضية عادلة إلى مجرد استثمار رخيص. ولعل ما يؤكد أمرا كهذا، أنه تحت هذا الشعار، كانت تجري كل المحاولات، لمنع أن يمثل الفلسطينيون أنفسهم في قضيتهم، فالنظام المستبد ينوب عنهم في تحريرها، كما ينوب عن السوريين في تحرير الجولان، أي العمل على تفريغ القضية من محتواها الحقيقي، وجعلها مجرد شعار. وقد عامل النظام السوري الفلسطينيين كما عامل السوريين، إذ أعطى الفلسطينيين حقوقا معيشية واقتصادية، فيما حرمهم حقهم السياسي والعادل في تمثيل قضيتهم من جهة، وفي مقاومة إسرائيل من جهة ثانية، إلا من خلاله، وهذا بغرض أن يستثمر هذا الأمر في التعويض عن شرعيةٍ مفقودة، بل أبعد من ذلك العمل على أن تكون شرعية النظام مأخوذة من هذا الأمر بالذات، وليس من الانتخابات أو تحقيق مطالب الجماهير بالحرية والعيش الكريم، إذ يكفي أنك تحارب إسرائيل لفظيا لتكون حاكما إلى الأبد.
كل هذا بالتوازي مع ثقافة عنصرية واضحة ضد الفلسطينيين، تُغذّى عبر القنوات الاستخباراتية، تدل عليها عبارات من نوع أن "الفلسطينيين باعوا أرضهم وهربوا إلينا"، ناهيك عن إثارة رهاب الخوف من الفلسطينيين، وإلصاق كل الشرور بهم، وهذا ينطبق على سياسة النظام ضد كل السوريين، لمنع تقاربهم والتقائهم، أي جعل المجتمع مجرد طوائف وجزر معزولة عن بعضها تتبادل الكراهية المضمرة، أي مجتمعات محكومة بالتجاور الطائفي" وفق الكاتب ياسين الحاج صالح. وهنا يصح القول إن الفلسطينيين كانوا يمثلون "طائفةً" من جهة، و"غرباء لاجئين" من جهة أخرى، إذ يتم الاحتفال بهم وبقضيتهم رسميا فيما العداء والعزل من نصيبهم مجتمعيا، وهذا كله بإشراف الأجهزة الاستخباراتية التي تراقب الجميع. ولعل أبلغ دليل هنا إطلاق النظام السوري اسم فلسطين على أحد أفرعه الأمنية، وهو الفرع الذي يعتقل فيه السوريين والفلسطينيين في آن، وتمارس بحقهم أبشع أنواع التعذيب والإهانات والإذلال، إلى درجة تمنّي الموت، من دون أن يُعتقل فيه إسرائيلي واحد أو عميل واحد حقيقي لإسرائيل، ربما منذ تأسيسه! بل أبعد من ذلك، كانت الأجهزة الأمنية تعتمد في التحقيق وسيلة خبيثة لانتزاع الاعترافات، كأن يعتقل فرد ما على خلفية تهريب المازوت مثلا، ليكون أول سؤالٍ إليه في التحقيق، بالتوازي مع الضرب المبرّح: ماذا كنت تفعل في إسرائيل؟ ولماذا تتواصل مع إسرائيل؟ وذلك من دون ذكر أي شيء بشأن التهمة الأساسية في البداية. وهنا حين يجد المعتقل أنه في مواجهة تهمةٍ كهذه، يصبح الاعتراف بكل ما قام به في حياته أسهل عليه من أن تلصق به هذه التهمة، فيعترف بكل شيء لكي يبعد عنه شبح هذه التهمة!

إذن، العداء لإسرائيل في عرف هذه الأنظمة مجرد استثمار سياسي صرف، يستخدم في وجهتين: الأولى ضد إسرائيل وأميركا، من دون إعلان حرب عليهما، بل ورقة للمقايضة، ولتبيان أنهم قادرون على حماية أمن إسرائيل، أو تهديده جزئيا حين تهدد عروشهم. الثانية: لجعل القضية تحتل الأولوية في وعي الجمهور، بغرض تعزيز الشرعية من جهة، ونبذ الجمهور كل من يوصم بالعمالة، وهي تهمة مشينة حقا، ولكن ليس ضد العملاء الحقيقيين، بل ضد كل من يعارض هذه الأنظمة.
والأغرب من ذلك كله هو التماهي الشعبي مع تلك الإيديولوجيا، والذي بات يشبه لحظة انفلاش الغرائز الطائفية والدينية، إذ مجرد اتهام أحد بالعمالة يكفي حتى ينبذ ويشتم ويخوّن علنا، حتى من دون أي محاكمة، على الرغم من أن هذه الجماهير تعرف أن أنظمتها كاذبة ومستبدة وفاسدة. ومع ذلك تصدقها في أمرٍ كهذا، ما يوضح لنا مدى تحوّل إسرائيل في العقل العربي إلى ما يشبه "أفيون الشعوب"، وذلك كله يتم باسم حب فلسطين ودعم قضيتها العادلة، ومن الحب ما قتل.
ولعل هذا سيكون أقسى ما سيواجهه زياد عيتاني بعد خروجه من الحبس في لبنان، فاللعنة المجتمعية الظالمة ستبقى تلاحقه، فكل صكوك البراءة القضائية لن تنفع أمام قضاء المجتمع الذي ستبقى تعزّزه في الحالة اللبنانية الإيديولوجيات الرديفة للأحزاب التي تقوم بما يقوم به النظام السوري، أي جبهة الممانعة التي هي شريك أساسي فيما جرى لزياد عيتاني. فما علينا أن ندركه جيدا أن سياق قصة الرجل يقول إن الممانعة فقدت مصداقيتها فيما يتعلق بالحرب ضد إسرائيل بعد تورّطها في سورية، وكان أحد أهداف ما جرى أن يصب في إعادة حشد الجماهير، وتوجيه "الوعي" مجدّدا نحو إسرائيل باعتبارها العدو، فانقلب السحر على الساحر.

دلالات

887F9940-DD14-4E58-BE81-9009CD932F8D
محمد ديبو

باحث وشاعر سوري، من أسرة "العربي الجديد"، من أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، 2014)، خطأ انتخابي (دار الساقي، 2008)، لو يخون الصديق (2008). حاز على جوائز متعددة وترجمت بعض أعماله للإيطالية والانكليزية. له أبحاث ومقالات في الاقتصاد والطائفية.