الغالب والمغلوب في صراع الأشقاء

الغالب والمغلوب في صراع الأشقاء

12 مارس 2018
+ الخط -
منذ قطعت السعودية والإمارات والبحرين إضافة إلى مصر علاقاتها مع قطر، في 5 يونيو/حزيران الماضي، والموقف بين هذه الدول يزداد تعقيدا وضبابيةً، بسبب عروض قطر المستمرة للدول المحاصرة لها بالحوار المباشر أو عبر وسطاء، لمعرفة أسس الأزمة من جهة، بحسب ما تدعيه الدول الخليجية الثلاث، وأيضا للوصول إلى حلولٍ تخرج الجميع من هذه الحالة الحرجة، في أكثر مناطق العالم حساسية وخطورة.
وعلى الرغم من تدخّل دول شقيقة وصديقة للطرفين، كالكويت والولايات المتحدة، والأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، وغيرهم، في مساعي إيجاد أرضية مناسبة لتقريب وجهات نظر الجميع، وصولا إلى ما يعالج الأزمة ونزع فتيل احتمالات مفتوحة للتصعيد أو لأعمال متهورة قد تفضي إلى تغييرات سياسية، وربما جيوسياسية، في المنطقة، لن تكون حكرا على أطراف الصراع، بل قد يقطف ثمارها لاحقا لاعبون إقليميون كبار، لا يخفون على القوى العالمية الكبرى.
ليس هذا المقال بصدد إعادة ما يتعلق بالأزمة الخليجية الراهنية، والتي باتت أمرا واقعا في المنطقة، حتى إن القطريين نظموا شؤون حياتهم واقتصادهم ودفاعهم وأمنهم الداخلي على اعتبار أن الحصار حقيقة واقعة، كما شطبت الأطراف الأخرى من حساباتها، في هذه المرحلة أيضا، أي دور لقطر في اقتصاداتها أو علاقاتها الدولية، وحتى في نظامها الاجتماعي الذي انتزعت منه قطر، باعتبارها مكونا خليجيا، يمثل جزءا حيويا في نسيجهم الأسري والقبلي والأمني، لكن ما يجب تثبيته، وصولا إلى المبتغى الأهم في هذا الصدد أن قطر لم تترك مناسبةً وطنيةً أو دوليةً، إلا وأكدت دعوتها دول الحصار إلى إجراء الحوار من دون شروط مسبقة.

ما يجب أن يقال إن في الصراعات بين الأشقاء أنها تفضي إلى خسائر بالغة لكل الأطراف، وتجارب التاريخ القريب والبعيد تؤكد ذلك؛ كما أن آثار هذه الصراعات لن تزول بتقادم السنين، ولعل ما جرى بين العراق والكويت، في الثاني من أغسطس/آب 1990 وما بعده، نموذج يمكن تثبيته للدراسة، بسبب تداعيات هذه الأزمة منذ أول بداياتها، وتصورات ديمومتها بأشكال عدة في المستقبل؛ فخلال أيام تحولت الحالة بين حكومتي العراق والكويت وشعبيهما من الائتلاف الأخوي المتفاعل إيجابيا، خصوصا خلال الحرب العراقية الإيرانية، إلى أنماط متعددة من العدوان والعدوانية، جاءت نتائجها لتجتث حالة الجيرة والأخوة بين البلدين.
نعم، استطاع العراق أن يبسط نفوذه وسطوته على كل الأراضي الكويتية، وضمها، باعتبارها المحافظة التاسعة عشرة له، بما يعنيه هذا من تغييراتٍ في أسلوب حياة المدن الكويتية وإدارتها وسكانها بالشكل الذي تقوم عليه بقية محافظات العراق. وظل هذا الأمر أمرا واقعا نحو ستة أشهر، ثم أنهته حرب الخليج الثانية بقيادة الولايات المتحدة والتحالف الدولي، المكون من أكثر من 30 دولة، في يناير/كانون الثاني 1991، والتي أفضت إلى سحب القوات العراقية من الكويت، بعد تدمير البنى التحتية للعراق، وجزء كبير من قواته المسلحة، ووضعه تحت طائلة قرارات خطيرة جدا لمجلس الأمن الدولي، قيّدت إمكانية القيادة العراقية على الإدارة، إلا أن المشهد بعد هذا التاريخ لم يكن ليشير إلى انتصار كويتي على العراق، كما لم يكن اجتياح العراق الكويت نصرا عليها.
لم تستطع الكويت أن تتناسى ذلك اليوم من أغسطس/آب 1990، على الرغم من كل ما كان العراق يعانيه من حصار، أدى، في بعض نتائجه السلبية، إلى موت كثيرين من أطفاله، وتعطيل عجلة الإنتاج والتطور، بسبب الحصار الكبير على كل ما يرد إلى العراق من مواد، تساعده على النهوض من جديد، فكانت تهيئ الولايات المتحدة وغيرها وتحثهما على ضرورة تغيير النظام القائم في العراق، وهو ما تم، وانطلاقا من أراضيها عام 2003، فسقط النظام القائم في العراق، وحلت محله الفوضى التي لم تكن خلّاقة، وأدخلت العراق في دوامة التقهقر الحضاري بكل تفاصيله، فهل كان ذلك كافيا للكويت لرد الاعتبار عما حصل في 1990؟
قدمت إحدى أكبر الفضائيات العربية، مطلع شهر مارس/ آذار الجاري، برنامجا يشير بقوة إلى ما يريد هذا المقال الذهاب إليه وتأكيده، يتحدث بشكل سطحي وهدّام جدا للتقارب العراقي - الكويتي، عن دور "المقاومة الكويتية" في (طرد) الجيش العراقي من الكويت، وهو أمر أثار استغراب كثيرين ممن شاهدوه وحفيظتهم، فعلى الرغم من المغالطات الفنية والتاريخية والشخصية فيه، إلا أن سؤال المستغربين: لماذا الآن؟ وماذا تريد هذه الفضائية أن ترسله من رسائل، إلى الكويتيين والعراقيين من البرنامج وتوقيت عرضه؟
هو دليل على أن الصراع بين الأشقاء لا يمكن أن يكون فيه غالب ومغلوب، مهما امتلك أحد الطرفين من قوة وهيمنة؛ ذاك أن ما قام به العراق عام 1990 لم تستطع الكويت نسيانه، كما أن ما قامت به الكويت عام 2003 عبر فتح حدودها لانطلاق العدوان، ثم احتلال العراق
وفرض حالة الأمر الواقع في رسم حدودها معه، كلها عوامل جعلت منها ذات توجهات عدوانية مستمرة صوب العراق، بحسب عراقيين كثيرين، وهو ما يعني أن من كان غالبا بضع الوقت بات مغلوبا في وقت آخر، ثم استمر في دوامة التربّص أو الخوف، في مقبل الأيام والسنوات.
يجب أن لا يغيب عن الأطراف التي تحاول أن تضغط على قطر، شعباً وحكومة، أنها ستجد نفسها أمام تحركات قطرية دولية، تغلب عليها لغة المصالح، لمنع تحقيق أغراض دول الحصار. وستحصد الدول التي تضغط، خلال هذه الفترة من أجل حصار الشعب في قطر، عقدة لن تزول أبدا ضد كل من ساهم في محاولات تركيع النظام السياسي في الدوحة أو تغييره. ولعل الحكومة القطرية تعلم أيضا أنها يمكن أن تصمد وتواجه محاولات حصارها وربما محاولات تغيير نظامها السياسي، لكنها لا يمكن أن تحقق نصرا على شقيقاتها، السعودية والإمارات والبحرين.
وحده الحوار هو الكفيل بتحقيق النصر للجميع، النصر على عقدة الهيمنة والغطرسة، وإعادة شعوب هذه الدول إلى حالة الأخوة التي حاولت دول الحصار نزعها منهم. كما أن الدول اليوم لا تقاس بحجم مساحتها أو عدد سكانها، بل هي مؤثرة بقدر حجم علاقاتها الدولية وطريقة إدارتها مواضيع عالمية مرتبطة بالاقتصاد ومراكز القوى، ودورها في حفظ الأمن والسلام العالميين. والمتمنّى أن تبادر دول الحصار إلى قبول عروض قطر المتكرّرة في البدء بحوارٍ يرسي قواعد ترتيب العلاقة فيما بينها مع الدوحة. ولعل الجميع يعلم أن التاريخ عبر ودروس، وأن المؤمن يجب أن لا يلدغ من الجحر نفسه مرتين.
F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن