الاستحقاق البلدي والمشهد الحزبي في تونس

الاستحقاق البلدي والمشهد الحزبي في تونس

11 مارس 2018
+ الخط -
يُعدّ الاستحقاق الانتخابي البلدي مرحلة مهمّة على درب التأسيس الديمقراطي في تونس بعد الثورة. ذلك أنّ اختيار أعضاء المجالس البلديّة يُفترض أن يُخرِج البلاد من طور الأداء الانتقالي المرتبك، ليضعها على سكّة الحوكمة المحلّية، كما سيسمح بتعزيز اللاّمركزية، ويزيد من مساهمة المواطن في صناعة القرار وإدارة الشأن العام.
والناظر في قوائم المترشّحين للانتخابات يتبيّن أنّ التنافس على البلديّات رسم معالم المشهد السياسي في البلاد، وأخبر بمدى جاهزية الأحزاب، لخوض هذا المعترك الانتخابي المهمّ، فالإحصائيّات الصّادرة عن الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات تُفيد بأنّ عدد المتنافسين لتقلّد مناصب بلدية في (350 دائرة محلّية) يقارب الخمسين ألفا، يتوزّعون على قوائم حزبيّة (1099) ومستقلّة (897) وائتلافية (177). واللافت هنا وفرة القوائم (2173) وكثرة المترشحين على نحو غطّى كامل تراب الجمهورية. وذلك دالّ على حماسة قطاع معتبر من التونسيين، لتحمّل مسؤولية إدارة الشأن البلدي، وشيوع إحساس عامّ لدى المواطنين بأهمّية الاحتكام إلى الآليات الديمقراطية في تشكيل هياكل البلديات. ويشي الحضور المكثّف للمتقدّمين في قوائم مستقلّة بميل عدد معتبر من التونسيين إلى المساهمة في إدارة الشأن المحلّي خارج الأطر الحزبية، لقناعةٍ عندهم بأنّ المبادرة المستقلّة يُمكن أن تجد لها صدىً عند مواطنين فقدوا الثقة في وعود السياسيين. لكنّ ذلك لا يمنع من أن قوائم المتحزّبين تتصدّر المشهد التنافسي في المعترك الانتخابي. فالحزبان الحاكمان، نداء تونس وحركة النهضة، تمكّنا من تقديم قوائم لهما في كلّ الدوائر البلدية (350). والظاهر أنّ تجربة الحكم التي استنزفت الحزبين، ووضعتهما في مواجهة تحدّيات جمّة، وأزمات عدّة، لم تفقدهما القدرة على الدّعاية والاستقطاب، فحافظ 
كلاهما على امتداده داخل الشارع التونسي، ولو بشكل متفاوت، فسياسة التوافق التي انتهجها الطرفان في إدارة البلاد، على الرغم من عثراتها العديدة، وأدائها الاقتصادي المحتشم، نجحت في المحافظة على السّلم الاجتماعي، وفي مأسسة الانتقال الديمقراطي، وجنّبت البلاد ويلات الاحتراب وإمكان الانقلاب، ومخاطر الإقصاء وتوابع الإجهاز على الثورة. لذلك، لا عجب أن ترى كثيرين لا يرون حرجا في الانخراط ضمن القوائم التمثيلية للحزبين. والثابت أنّ حركة النهضة تستمدّ قوّتها من انضباط قواعدها الحزبية، والتزام المنتمين إليها بإنجاح تجربتها في حكم البلاد. كما أنّ فصلها الدّعوي عن السياسي، وتبنّيها مشروع مدنية الدّولة، واعتمادها سياساتٍ براغماتية، ونهجا مرنا في تعاطيها مع قضايا الشأن العام، مكّنها من المحافظة على حضورها الشعبي الوازن داخل الاجتماع التونسي. أمّا "نداء تونس" فيستمدّ عنفوانه من حضوره المكثّف في هياكل الدولة ومفاصل الإدارة، ومن قدرته على استقطاب من يعرفون بأنهم عرف بأنصار حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي المُنحلّ. فقد كان الحزب الجسر الذي عاد من خلاله هؤلاء إلى الفعل في الحياة السياسية، وكان له الدّور في تجنيبهم سياسة العزل والإقصاء، وله الفضل في تمرير قانون المصالحة الإدارية الذي استفاد منه إداريون ورجال أعمال "تجمّعيون" كثيرون حامت حولهم شبهات فساد. ومن ثمّة، فإن حركة نداء تونس، على الرغم مما اعتراها من انقسام، ما زالت تستهوي طيفا واسعا من التجمّعيين والليبراليين الذين فشلت في احتوائهم الأحزاب الدستورية التقليدية، وفي مقدّمتها الحزب الدستوري الذي لم يُقدّم سوى 32 قائمة، فيما اكتفى حزب المبادرة الدستوري بتقديم ثماني قوائم فقط. وبناء عليه، وجود خزّان انتخابي كامن، وإستراتيجيات استقطاب ناجعة، وهياكل حزبية منظّمة وفاعلة في الجهات، مكّن حزب نداء تونس وحركة النهضة من تصدّر طليعة القوائم المترشّحة للانتخابات البلديّة.
في المقابل، بدت الأحزاب المعارضة ذات حضور محدود في المشهد التنافسي. وحتّى 
المبادرات الائتلافية لتجميع قوى المعارضة وتعديل المشهد السياسي لم تأت بالنجاعة المأمولة، ولم تستقطب مترشّحين كثيرين، فالجبهة الشعبية لم تتمكّن من تغطية نصف الدوائر الانتخابية، وحلّت في المرتبة الثالثة ب 132 قائمة، واكتفى الاتحاد المدني ب 42 قائمة، فيما لم يتجاوز اتّحاد القوى الديمقراطيّة القائمتين، فاتّضح جليّا أنّ التحالفات الحزبيّة الطارئة، الظرفية والقائمة لغايات انتخابية عابرة، لا تغري المترشّحين. أمّا الأحزاب الثورية ذات الخلفيّة الديمقراطية فبعضها انسحب من المشهد تماما، وارتضى عدم المشاركة، لقلّة زاده البشري، ولمحدوديّة إمكاناته اللّوجيستية (المؤتمر من أجل الجمهورية، حركة وفاء، التكتل من أجل العمل والحرّيات)، وبعضها الآخر انخرط في المسار التنافسي بدرجات حضور متفاوتة: التيّار الديمقراطي (72 قائمة)، حراك تونس الإرادة (43 قائمة)، البناء الوطني (20 قائمة). ويمكن تفسير انحسار حضور المعارضة بعدّة أسباب، منها صعوبة الالتزام بالشروط التي نصّ عليها القانون الانتخابي، خصوصا ما تعلّق بالتناصف الأفقي والعمودي بين النساء والرجال، وما اتّصل بإدماج الشباب وذوي الحاجات الخاصّة في قوائم المترشّحين. يُضاف إلى ذلك أنّ الأحزاب المعارضة لا تقف على أرضية أيديولوجية وبرامجيّة واحدة، وهو ما جعلها تخفق في تشكيل تكتّلات حزبيّة وازنة. كما أنّها لم تستثمر جيّدا في فشل الائتلاف الحاكم، ولم تقدّم بدائل لمعالجة الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المشهودة في البلاد، وظلّت مشغولة بالصراعات الأيديولوجيّة، والخلافات الداخلية، ولم تنجح في تجديد خطابها، وبلورة إستراتيجيات تنظيميّة، تستهدف توعية المواطنين واستتباعهم.
ختاما، يُمكن القول إنّ حدث الترشّح لخوض الاستحقاق البلدي أخبر بتنوّع المشهد السياسي في تونس، وبحيويّة تجربة الاختلاف وثقافة التعدّد في البلاد. كما دلّ على صحوة روح المبادرة لدى المواطنين، وثقتهم في الديمقراطية، بما هي أداة للمشاركة والتغيير، وإنجاح هذا الاستحقاق ضروري، لتوطيد أركان دولة المواطنين، ولنقل محامل الحكم المحلّي من نصّ الدّستور إلى الواقع.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.