أشبه بالفقاعات

أشبه بالفقاعات

09 فبراير 2018
+ الخط -
كان يتحدث عن كل شيء، وكنت أسمعه من غير تركيز. لا رغبة لدي في طرح الأسئلة، أود أن أنصت فقط إلى الصوت الذي لا يكف عن الكلام. غاب أياماً عديدة، وعاد بالنظرة نفسها اللامعة في العينين، ورددت عليه بابتسامة، أحسبها تعكس له البريق الذي في العيون. أحب أن أرى الآخر ينظر إلى انعكاس نفسه في عيني. أنصت، هذه المرة، لم يكن يروي شيئاً ذا بال. انتهى الحديث بابتسامةٍ ووداع، لا وعد بلقاء لاحق.
مصادفة أخرى، ربما. وربما تكلمت هذه المرة طويلا. لم أسكت ولو لحظة. ما الذي يمكن أن أقوله طوال هذا الوقت. بدا لي أن ما أقوله فقاعات، تلك التشكلات الرقيقة، الهشة، سائل يدور ويمتلئ بالهواء، يهوم ويتلاشي.
"خبرياتي" كلها أشبه بالفقاعات. لها محتوى، لكنها أشبه بهذا السائل بلا قوام، ما أن يجد شكلا له حتى يختفي. الهواء يمتلئ بالفقاعات، المكان ملون بهذه الكريات الجميلة، يمكن لمن يستمع أن يشعر بحضورها الخفيف، الحديث جميل وسلس إذن. لا يلبث أن يتبدد. أقول كل شيء إلا ما أريد قوله.
للكلمات فائدة كبيرة، بحسب فولتير، فهي تساعدنا على إخفاء ما نفكر فيه حقاً. إنها تفي بالغرض، تُشعر المستمع بأنك تتحدث حقاً. بينما أنت تملأ الجو بفقاعات، بأحجام مختلفة، حسب التأثير المطلوب. يحدث أحيانا أن تلتقي الفقاعات، في فسحة حديثٍ ما، وتنسجم، وتصنع فقاعة كبيرة، تصير حكاية مسلية أو حكاية مؤثرة. حسب المزاج أو الغاية من الحديث. يمكن أن لا تتشكل الفقاعة، قد لا يتسنى لها الوصول والتحليق في الهواء.
لماذا يعتقد الناس أنّ الكلام هو الذي يوطد العلاقات؟ كثرة التحدث دليل على علاقة صحية وإيجابية؟ بالنسبة لي، يكاد الكلام أن لا يعني شيئاً. كلما اختزلت واختصرت الكلام كلما كنت مهتمة أكثر، كلما كنت أرغب في تبادل الغير منطوق. الكلام فقاعة تطير فلا أحد يحفظ ما قلت... أجهزة المخابرات تهتم، يمكن أن تسجل لك كل الكلام المنطوق، ستفرغه وتحوّله إلى وثائق مكتوبة، الكلمات المكتوبة، حتى هنا، أكثر أهمية من تلك التي تطير في الهواء.
أن تكتب، وتدون كلامك، أي أن تحول الفقاعات إلى ورق، أن يصير لك تاريخ صغير تنتزعه من ضباب اللامبالاة اليومية الهزيلة.
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
خولة أبو سعدة (سورية)
خولة أبو سعدة (سورية)