الأمة والإعلام الحديث

الأمة والإعلام الحديث

08 فبراير 2018
+ الخط -
شهدت الحياة البشرية انتقالا غريبا في السنوات الأخيرة، فحق لنا أن نغير قولنا بالدور الذي تلعبه العولمة من جعل العالم قرية صغيرة إلى بيت صغير وواحد. العالم اليوم صار بالفعل بيتا واحدا، ما دام أن في وسعنا أن نتواصل مع الآخرين من مختلف أنحاء العالم، وفي لحظة واحدة بفضل وسائل تكنولوجية حديثة، كان للهاتف الذكي ضمنها فضله الكبير. دعونا نتأمل في ماضينا ونعود ربع قرن فقط إلى الوراء، لنرى كيف كان الهاتف في ذلك الوقت، أو بالأحرى كيف عاشت البشرية آنذاك.
لا ينكر عاقل أنه لو عدنا قليلا إلى الوراء، لوجدنا أن أسعد الناس هو من في حوزته هاتف من ذلك النوع القديم، ذلك الهاتف الذي لا يتيح لصاحبه سوى الاتصال واستقبال المكالمة. كان ذلك كل ما كان في الهاتف، على الرغم من سعره الباهظ. لكن، دعونا نتساءل من جديد: كيف انتقل العالم من ذلك الوضع إلى ما نراه اليوم من أشكال الهواتف، ثم كيف أثر ذلك على الحياة البشرية؟
قد لا أجازف، إن قلت إن التغيير الذي حصل كان خطة تم رسمها من قبل وبشكل محكم، وربما كانت ضمن سلسلة من العمليات السرية الخبيثة، قصد السيطرة على العالم، وبهدف التأثير فيه وتوجيهه وجهة معلومة ومرسومة مسبقا. ولعل من المفيد أن أذكر أنني لا أطرح قضية الهواتف ووسائل التكنولوجيا الحديثة في هذا المقام، بهدف الوقوف على أضرارها وفوائدها، فذلك نقاش تعليمي مدرسي، لن أخوض فيه. إنما الغاية التي كانت تقود فكري، وأنا أتناول الموضوع، هي التنبيه إلى أثر ذلك على الأمة وشبابها، إذ هو المعول عليه في التغيير بالدرجة الأولى.
تختلف أشكال الهواتف التي يستعملها الناس، وتختلف كذلك طرق استعمالها والتعامل معها، لكن الواقع، في نهاية المطاف، يبيّن مدى تأثيرها في تضعيف الأمة وظهور أنواع جديدة من الأفكار والأخلاق التي لا تمت إلى قيم أمتنا بشيء. لما علم العدو أن الوقت سر فلاح الأمة في زمانها الجميل صنع لنا جاهدا وسائل تشغلنا عن كل شيء، وقد يضيع العمر كله في التصفح والدردشة في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.
شاب مؤمن تشرب الفكر الإسلامي، وتيقن أن الأمة انكسرت، وعلى الجميع العمل لجبرها وبنائها من جديد، لكنه يظل خليلا ل "فيسبوك" ليل نهار، فتفوته الصلوات، وتبقى اعتقاداته أحلاما كان أول من كذبها. فتاة مؤمنة محجبة، لا تكلم أحدا في الشارع. لكنها تستقبل كل يوم مئات الرسائل خلوة، وهي تدرك من خلال ما تربت عليه أن فلاح الأمة رهينٌ بتنوير المرأة وتربيتها.
سهر الشاب المؤمن والشابة المؤمنة، من كانت الآمال معلقة عليهما، تصفحا مختلف المواقع والدردشة مع أقرانهما ليبدأ الثلث الأخير من الليل، ويقترب الفجر، فيركن كل منهما أخيرا إلى نومه الذي يمتد إلى الظهيرة...، سوف نغير الأمة. أي والله ما غيرنا حتى مواقع جلوسنا الفيسبوكي.
ينضاف إلى عامل الوقت عامل القيم والأخلاق كذلك، فالعدو أدرك، منذ البداية، أن سلب القوة والسيطرة الكاملة لن تكون إلا بتغيير الأخلاق وقصف القيم، قالوا: "سنعمل على نزع الأخلاق حتى لا يبقى شيء مقدّس في نظر الشباب، غير إشباع غرائزهم الجنسية"، سيذبل الإيمان بالله وبرسوله والقرآن الذي أنزل معه لتبقى هواتفنا فوق كل اعتبار.
الشابان حينما يتواصلان إلى الثلث الأخير من الليل فإنها (ولا شك) تقيّدوا بسلاسل الرغبات الجنسية، وحينما يركنان إلى النوم من دون صلاة وذكر، فلا شك أن قلبهما لم يعد يقدّس شيئا غير الإيمان الجنسي الذي يقودهما فكرا وجسدا. إذا تمعنا في هذا الوضع بشكل دقيق سندرك في النهاية أننا لا نصلح بقدر ما نفسد، ولا نبني بقدر ما نهدم. الأزمة (للتنبيه فقط) لم تعد لها حدود، وإنه يكفي أن تفتح حسابك لتصادف عشرات الأصدقاء يتم اقتراحهم بشكل عشوائي كل يوم.
هذا، وقد نتجاوز حدود الواقع والصورة الظاهرة، حيث تدعونا السيميائيات الحديثة إلى التأمل خارج الإطار الظاهر، أي فيما قد يحدث في الدردشات خلوة، وهي حقائق تدرسها قوى الشر المسيطرة على العالم بشكل دقيق، ومفصل وإن ظن بعض منا أنها تبقى سرية وحبيسة هاتفه وحاسوبه.
مصطفى العادل
مصطفى العادل
مصطفى العادل
باحث في اللسانيات العامة بكلية الآداب، جامعة محمد الأول-المغرب. باحث بمركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية. الأمين العام للمركز العربي للبحوث والدراسات المعاصرة. رئيس قسم الأدب واللسانيات البينية بمركز مفاد.صدر له كتاب "المدارس اللسانية وأثرها في الدرس اللساني بالمغرب". يعرّف عن نفسه بالقول "كل لحظة تأتيك فكرة، يلهمك الله نورا لتعبر به عن معنى، فكن دوما مستعدا بسيف القلم كي لا تهزم في معركة الإبداع".
مصطفى العادل