تونس والأخت فرنسا

تونس والأخت فرنسا

06 فبراير 2018
+ الخط -
لم يكن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يتوقع أن يستقبله التونسيون بتلك الحفاوة عند جولته في محيط مدينة تونس القديمة، في خاتمة زيارته الرسمية التي حاول من خلالها التأكيد على رغبته في دعم تونس، وحماية انتقالها الديمقراطي المهدّد.
تأخر الدور الفرنسي كثيرا في هذا المجال، لأسباب عديدة، من أهمها أن باريس لم تكن مع الثورة التونسية، وبقيت متمسكة بالرئيس بن علي إلى آخر لحظة. فقدت القدرة على استشراف المستقبل، واطمأنت لاستقرار النظام وقدرته على مواجهة المخاطر. وعندما أسقط في يدها، حاولت ملاحقة التطورات المتسارعة بارتجالٍ ملحوظ. ثم تلقت الصفعة الثانية غير المنتظرة، عندما فازت حركة النهضة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وأصبحت الحاكمة في تونس البورقيبية والحليفة للغرب. عندها، بدأت باريس تتكيف مع الأوضاع الجديدة، وتحاول هضمها بطريقةٍ متسرعة، تقدم معسول الكلام، لكنها على أرض الواقع بقيت حذرةً، مستعينة بشبكاتها القديمة، والأوساط التونسية القريبة منها.
اليوم بدأت فرنسا تعيد ترتيب أوراقها بزعامة هذا الشاب الطموح، وتؤسس من جديد لسياستها الخارجية تجاه فضائها الحيوي الذي يتمثل في إفريقيا عموما، والمغرب العربي خصوصا. فالعالم الفرنكفوني يشمل اليوم حوالي 700 مليون نسمة، لكنه يحتاج سياسة فرنسية بديلة. لم يعد ينفع الخطاب المحنط والديماغوجي. هناك مراجعاتٌ لا بد أن تحدث. ولهذا قال ماكرون "نتمنى أن تعيش الفرنكوفونية أكثر في تونس". ومثلما اعتذر في الجزائر عن سنوات الاستعمار، اعترف في تونس بسوء إدارة فرنسا الملف الليبي.
اختلف خطابه عن الجيل السابق من الرؤساء، ولا يعود ذلك فقط إلى عامل السن، وإنما أيضا بحكم اختلاف الأوضاع عما كانت عليه قبل الانتفاضات العربية، فلم ينطلق ماكرون فقط من مصالح بلاده، ولكنه حاول أن يزاوج بينها وبين التحديات التي تواجهها المجتمعات المحلية. لهذا تصعب التصنيفات التي تبدو سياسية واقتصادية، إلا أن مجمل المحادثات والاتفاقيات تضفي عليها طابعا استراتيجيا، فيه قدر من الشمولية وملامسة القطاعات الحيوية التي تشغل المسؤولين التونسيين، من استثمار وأمن وشباب وتعليم وثقافة.
لم يكن الحجم المالي الذي تم الإعلان عنه (50 مليون يورو) في مستوى الانتظارات، لكن هناك رسائل قوية لا يمكن التهوين من شأنها في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها تونس.
حاول ماكرون الإيحاء بأن العلاقة مع تونس سترتقي من مستوى الصديق إلى درجة الأخ. لم يكن خطابه أمام البرلمان مكتوبا بانتقائية ودقة، وفق ما تمليه مناورات الدبلوماسية، وإنما كان مرتجلا، يعكس مشاعر الرجل ورغباته الصادقة إلى حد ما. وعلى الرغم من أنه أعلم بأنه في بلد صغير، إلا أنه قال للتونسيين "أنتم لكم تاريخ عظيم وأمة عظيمة".
وخلافا لتلك النبرة التشاؤمية التي ينعى أصحابها الربيع العربي، اعتبر ماكرون أن صفحة هذا الربيع لم تطو "وتونس تعطيها الحياة". كما اعتبر أن أهم ما يميز التجربة التونسية قوله إن التونسيين كذّبوا ما ذهب إليه كثيرون في الغرب، عندما تنبأوا بأن العلاقة بين الإسلام والدولة والديمقراطية مستحيلة، وقال بوضوح "أنتم كذّبتم هؤلاء، وأصبحتم نموذجا فريدا من نوعه، وإذا كان بعضهم يعتبركم حالة غريبة، فأنا أراكم الأمل ونموذجا يحتذى". وفي قوله هذا دعم سياسي مهم لمبدأ التعايش مع الإسلاميين، وتشجيع على احتوائهم، وإدماجهم في اللعبة الديمقراطية. كما أن في قوله إيحاء بأن هؤلاء الإسلاميين ليسوا خطرا، لا على تونس ولا على فرنسا. وهذا ما يعكسه الانفتاح الفرنسي على حركة النهضة، والقطع مع سياسة الشك والحذر والعداء المستبطن التي كانت تعتمدها باريس إلى وقت قريب.
ليست السياسة صدقا كلها، ولا هي كذب كلها. لكن المؤكد أن التونسيين هم المطالبون بمعالجة أوضاعهم الداخلية، من دون الارتهان للخارج. وبناء عليه، هم المطالبون بتحديد أولوياتهم، والاستفادة في ضوء ذلك من هذه الانعطافة التي أقدمت عليها السياسة الخارجية الفرنسية. فعندما تكون شريكا مقنعا تكسب ثقة من يرغب في التعامل معك.
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس