أن تكون صحافياً في هذا الزمن

أن تكون صحافياً في هذا الزمن

06 فبراير 2018
+ الخط -
يبدو الصحافي العربي، كما أيّ مواطن عربي، غارقاً في متاهته، يُمضي عمره باحثاً عن مكانٍ في هوامش تضيق عليه يوماً بعد يوم، ساوم وناور مجبراً، أحنى رأسه للريح حيناً، ورفعه قدر ما استطاع، في أحيان أخرى، وفي مشهد واحد وفي رقصة واحدة؛ رقص رقصةً مزدوجة في لحظة التباس الدور والخيار والمفاهيم، إنها لحظة لم تأت من فراغ.
مررت بهذه التجربة منذ قرابة عامين تقريباً، عندما تركت "بي بي سي"، ثم التحقت بمؤسسة أخرى تُعبّر عن موقفي، وتكرّس إعلامها لسورية من دون حيادية. وفيها تعرّضت لموقف معين، لعبتُ فيه على وتر الانتقائية والمراوحة بين "الصحافي الحيادي" و"الصحافي الملتزم بقضية".
بطلب من رئيس مجلس الإدارة، آنذاك، حضرتُ اجتماعاً حصرياً برعاية منظمة أميركية مع إسرائيليين، بغرض إجراء نقاش إعلامي و"إنساني". حينها لم أتوقف كثيراً عند موانع الحضور، منطلقة من فكرة بسيطة عن الصحافي؛ والتي تتيح له اللقاء بعديد من أطراف الصراعات، من دون أن يُحسب على أيّ منها، محمّلةً بما اكتسبته من خبرةٍ مدتها عشر سنوات على شاشة "بي بي سي"، حيث كان اللقاء مع الإسرائيليين يجري بشكل يومي، وهو أمر أصبح مألوفاً عربياً، خصوصا بعد أن شرّعت قناة الجزيرة الباب على مصراعيه لاستقبال الإسرائيليين ونقاشهم، بذريعة "الرأي والرأي الآخر".
كنت مدفوعةً، في البداية، بحسّ الفضول الصحافي لمقابلة الإسرائيليين، ماذا يريدون؟ كيف يتحدثون؟ خصوصا حين يتعلق الأمر بما يجري في الأبواب المغلقة، إنه الفضول نفسه الذي يجعلني أقول مازحةً، لو سنحت لي الفرصة لمقابلة أبو بكر البغدادي لفعلتها، وإن فعلتها لن يصير البغدادي صديقي.

سيقول بعضهم إن الفضول ليس سببا كافيا لحضور اجتماعٍ كهذا، وهذا حق، ولكن حتى الأسباب الأخرى لن تكون كافيةً، وجميعها تنبع من عقلية صحافي انتقى الحيادية، فالصحافي الناجح من يُعرف بمصادره الخاصة عادة، فكيف لو كان هو نفسه مصدراً مطلعاً على حدثٍ يقيم أهدافه، ويقرأ بين سطوره.
الخطأ برأيي أني وقعت في فخ الانتقائية، فأنا اخترت مغادرة "بي بي سي" ضيقاً من حياديةٍ اختلت موازينها، وفي هذا موقف ومبدأ، والمبادئ لا تتجزأ، المظالم لا تتجزأ، والعدو يبقى عدواً، حتى وإن كثر الأعداء من حولنا. وللأسف أوجعُهم أعداء الداخل.
بعد نحو عامين على مغادرتي، أو بالأحرى إقالتي من تلك المؤسسة، أياما بعد رفضي تكرار المشاركة في اجتماعاتٍ كهذه، وفعل فعلي آخرون، بعد كل هذه المدة أخذت أتامل تلك التجربة، وكنت دومًا في صراعٍ بين التقدير والاحترام الذي أحمله لكثيرين من عامليها وتضحياتهم، وفداحة تلك اللقاءات الذي جمعتني بالإسرائيليين، حيث اختلط فضولٌ مشروعٌ لصحافي مع مصالح خاصة لبعضٍ متحكّمٍ بالمؤسسة، أتحدّث اليوم عن هذا الخطأ، بصفتي صحافية مستقلة مؤمنة بفطرة شعوبنا، لا بمن تمثلهم من سلطات وأحزاب ونخب. ففي زمنٍ متهافتٍ، كالذي نعيشه، بأحداثه الهزيلة المتسارعة، من صفقة القرن ومؤتمر سوتشي، مروراً بجيوشٍ كان يفترض أن تكون وطنية، في هذا الزمن، حيث تتعاظم الهزائم سيكثر التوهان، والانتقائية. وفي المقابل، وكما يُقال، فإن بريق الحقائق التي تخبو حيناً تعود لتلمع بعد الاحتكاك ومواجهة أنفسنا قبل مواجهة الآخر.
عربياً، نعاني عموما من الانتقائية ولبسٍ في الأدوار، حيث يصبح الناشط صحافياً حين يريد، والسياسي يصبح معلّقاً على الحدث حين يريد، وصانعاً للحدث حين يريد. وصحافياً، يبرز السؤال حول من نحن؟ وماذا نريد؟ هل خيار الفرد فينا أن يكون صاحب قضية يعبر عنها ويمثلها؟ أم مراقباً خارجياً؟ هل هناك مساحة للمزاوجة بين الخيارين؟
.. بدأت خبرتي الأساسية في عالم الصحافة، عندما انضممت إلى "بي بي سي" عام 2007، حيث بدأتُ تجربتي هناك بدورة تدريبية على المعايير "المهنية والتحريرية". وكان المثال الأبرز لاختبار "موضوعية" الوافدين من العالم العربي هو الحدث الفلسطيني، فلإثبات موضوعية القناة وحياديتها، يجري التدليل على ذلك بتساوي الشكاوي التي ترد من الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، أذكر حينها أن المدرّبة قالت لنا: "عندما ينتقدكم طرفا الصراع سويةً فهذا دليل على أنكم أنجزتم العمل بشكل صحيح". بالنسبة لسورية، واستناداً على تعريف وسائل الإعلام والصحافة سلطة رابعة، وهي القوة التي تؤثر في الشعب، وتعادل قوة الحكومة أو تفوقها، وجدت، باعتباري صحافية سورية، في هذا التعريف أرضاً أنطلق منها للتعاطي مع الخبر السوري، وضعت الحيادية خلف ظهري في مناسباتٍ عدّة في مخالفةٍ واضحةٍ لمعايير "بي بي سي" المعلنة. ويوماً بعد يوم، سنة تلو أخرى، بدأت هذه الأرض تضيق عليّ، فلست حياديةً تجاه أهلي وبلدي، كما أنّ الحيادية التي كنا بصددها لم تترجم إلى شكاوى تأتي من طرفين، كانت الشكاوى تردنا من طرف واحد، وهو الطرف الأضعف بطبيعة الحال.
نعمل في مؤسسات، إن تبنت ظاهرياً أخلاقيات الصحافة ومعاييرها، إلا أنها بشكل فعلي لا يمكنها أن تكون مستقلة، ليكون من يعمل فيها مستقلاً، أقصى ما نستطيع عمله، نحن معشر الصحافيين، أن نبحث عن مؤسسةٍ نلتقي معها في قضايا جوهرية.
ولكن، في لحظة مفاجئة غير مجدولة، يحدث صدامٌ لن نستطيع تفاديه بيننا وبين المؤسسة، وغالباً ما يكون مرتبطا ببلد كل واحد منا، الأمر الذي يأخذنا إلى احتمالين لا ثالث لهما، أن
نتماهى مع التغيير تجاه قضيةٍ نؤمن بها، ونغدو آلات بشرية تقنية، أو نتمسّك بمبادئنا وإيماننا، وعندها يصبح الفراق مع المؤسسة حاصلا لا محالة، وعادةً ما يكون الفراق عند الاختلاف على المبادئ بشعاً، وله توابعه.
نعرف هذا جيداً، ونرى بعضنا يحتال عليه بوصفٍ يريح الضمير مؤقتاً (!) نجده في صفحات معظم الإعلاميين على "السوشيال ميديا"، حيث يرفقون الجملة الأثيرة "الآراء التي ترد في هذه الصفحة هي آراء شخصية لأصحابها، ولا تعبر عن رأي المؤسسة"، وهذه محاولةٌ بائسةٌ لإيجاد هامشٍ للقضايا التي حقاً تعنيهم، لحقيقةٍ يودّون إبرازها. ولكن حتى هذا لا يمر من دون أن تطارده المؤسسات واصطفافاتها.
وربما ما حصل، أخيرا، مع مذيعة مجموعة إم بي سي (MBC)، علا الفارس، مثال واضح، فبعد سنوات طويلة من عملها والتماهي مع هذه المجموعة. وفي لحظة تاريخية سوداء، يعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس عاصمة لإسرائيل. وعلا الفارس مذيعة منوعات بعيدة عن الخبر والسياسة، لكنها في تلك اللحظة لم تنفصل عن محيطها وما تؤمن به، فكتبت رأيا كلّفها وظيفتها ومستقبلها، فالاصطفاف الجديد في المنطقة يجعل مالكي مجموعة "MBC" من رعاة صفقة القرن، ربما لم يكن ليخطر في بال الفارس أن هذه اللحظة ستأتي. ولكن من منا كان ليتخيل أن الأمور ستصل إلى هذا الحد من الهزل.
نحن مقبلون على اختلالٍ أكبر، وأحداث صادمة ستغير مجرى حياتنا. وأيّا ما كنا، سنرتكب الأخطاء وستتحدّانا الحياة بتناقضاتها، وسنخسر مجبرين أحياناً جولاتٍ، ولكن معركة انتصارنا ستبقى معركة الوعي والوجدان واليقين بعدالة قضايا شعوبنا، هذا اليقين ملك لنا، ولن يكون لغيرنا، ومنه قد ينشأ غد جديد.
A08946AD-DB1F-416E-B591-6B05B45EFE7A
A08946AD-DB1F-416E-B591-6B05B45EFE7A
ديما عز الدين
ديما عز الدين