قبل الانتخابات البلدية في تونس

قبل الانتخابات البلدية في تونس

01 مارس 2018
+ الخط -
من الحكمة والعقل أن لا نجرب في تونس ما يحمل كل أسباب فشله، وإن جربناه سيكون الحكم علينا قاسيا، إذ جربت البلديات نظام المركزية، حيث يقع القرار في العاصمة، وما الأطراف (الجهات) سوى آلات تنفيذ لتطبيق سياسات ارتجالية تستجيب غالبا لغضب أو تحرك شعبي. وها هي البلديات مقبلة على تجريب ملحمة اللامركزية، حيث سيكون لكل بلدية قرارها، وعليها الاستجابة إلى تطلعات المواطنين، وطموحاتهم الكبيرة، خصوصا ما بعد ثورة يناير 2011.
كانت المركزية سلاح الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، للسيطرة على البلاد، فهي بيد الحزب الواحد، والفرد الواحد والرؤية الواحدة. صحيح أن المركزية كانت، ربما، الخيار الوحيد لفترة ما بعد الاستقلال، لاعتبارات منطقية، كغياب الكوادر الجهوية وضعف التعليم وانحسار النشاط الاقتصادي على الفلاحة دون غيرها. إلا إنّ بورقيبة تيقن، بعد المحاولة الانقلابية التي قادها ضده الأزهر شريط، سنة 1962، للتخلص منه، تيقن بأنه لا بد وأن يحمي نفسه وحكمه، وذلك بالتوغل في أطوار المركزية المتوحشة. هذه المركزية صنعها بورقيبة، وأضاف عليها سلفه، المخلوع زين العابدين بن علي، ما أضاف من لمسات القمع والحيف والنسيان الذي سلطهم على الجهات. وقد أفرزت هذه الرؤية الفردانية للحكم في تونس نظاما مختلا ومعلولا، يحمل كل العراقيل وبذور الفشل في صلب كل المؤسسات، وأهمها البلديات التي هي تستعد لخوض تجربة اللامركزية ابتداء من شهر مايو/ أيار المقبل.
فشلت المركزية ولم تفشل فقط، بل صنعت كل القيود المعرقلة لكل تغيير محتمل. 350 بلدية منتشرة على كامل تراب الجمهورية، جميعها تعاني من خمس مشكلات أساسية وعميقة. أولا، العجز في ميزانياتها والمديونية، وثانيا، النقص الفادح في الإمكانات اللوجستية. وثالثا، النقص القاتل في الكفاءات الإدارية، فنظام المركزية كان لا يحتاج إلى الكفاءات، كان يحتاج إلى المطيعين الذين يطبقون الأوامر والتعليمات. ورابعا، وجود عدد هائل من العملة، تم انتدابهم ما بعد الثورة، ولا يحملون خبرة في أي مجال مرتبط بالبلدية، ولم تعمل البلدية على تكوينهم واستغلالهم، لعدة اعتبارات، أهمها قدرة هؤلاء على إيقاف العمل في كل لحظة، وشل حركة البلدية، تحت مسمى حرية الإضراب الذي يكفله الدستور، ولم ترشده القيادات النقابية. وخامسا، توسع منظومة الفساد، وخصوصا تكون شبكات مصالح، قادرة على الدفاع عن نفسها، زيادة على أنها قادرة على تهميش كل محاولة للإصلاح قد تمس بمصالحها. تحتاج كل هذه المشكلات إمكانات مادية ضخمة، لا تقدر عليها البلاد حاليا، فهل ستقبل اللامركزية المقبلة على قبول مواجهة هذا التحدي، وهي تعرف مسبقا أنه لا سبيل لدولة تونس، في الوقت الحالي، بأن توفره؟
أصبح الجواب على هذا السؤال بيّنا، فالمركزية المتوحشة في تونس خسرت كل معاركها، فلم تكن سوى أداة قمع ودكتاتورية وتهميش للجهات. وليس لتونس خيارات أخرى، سوى تجريب اللامركزية، على الرغم من الفشل الكبير الذي ستحظى به البلديات، إلا أنه لا بد من خطو الخطوة المؤلمة التي يستلزمها التغيير نحو الأفضل. ويبدو أن الأحزاب الحاكمة، وكذلك أغلب أحزاب المعارضة ترفض المرور مباشرة إلى اللامركزية لاعتبار أنها خطر محدق بالبلاد، وهي قادمة على اختراع يمزج بين المركزية واللامركزية، وحتما سيكون نظاما مشوها، لا يسمح للمركز بأن يحكم ولا للجهة بأن تحكم، تماما مثلما حدث في نظام الحكم، فلا قصر قرطاج حكم ولا قصر القصبة، وبات الجميع ينادي بتنقيح الدستور.
حتى وإن كانت كل البوادر توحي بالفشل في تطبيق نظام اللامركزية في البلديات، إلا أن على الجميع أن يقتنع بأنه لا بد من المضي في الخطوة الأولى، والتي ستكون موجعة ومكلفة، إلا أنها الطريق نحو توازن الجهات، ومشاركة الشعب في تحديد أولياته، حسب الجهة، ومحاولة تحقيقها.
تحتاج تونس اليوم شجاعة فائقة، لكي تتقدم وتغير وضعها، وما الخوف والتردد إلا معرقلات وضياع وقت.
9F050F52-E60E-4E02-8779-EC6C876D09AD
9F050F52-E60E-4E02-8779-EC6C876D09AD
محجوب أحمد قاهري (تونس)
محجوب أحمد قاهري (تونس)